أزمة الشرعية في واشنطن وأمتحان المصداقية في فلسطين

الكاتب: مروان أميل طوباسي
لم يعد الصراع اليوم يدور حول فلسطين وحدها ، بل حول المعايير التي تحكم النظام الدولي باعتبار فلسطين آخر قضايا التحرر . ففي الوقت الذي يسعى فيه التيار الترامبي إلى فرض منطق القوة بديلاً عن الشرعية الأممية، برزت محاولات عربية ودولية لإعادة الإعتبار للمسار القانوني والإنساني للقضية الفلسطينية ، من خلال إعلان نيويورك ، والمبادرة السعودية –الفرنسية ، وقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة المتعاقبة ومنها في دورته الاخيرة في ايلول الماضي ، وما سبق ذلك من انتفاضة دولية مستمرة حتى اليوم غيّرت في مفاهيم الرأي العام العالمي ، إلى جانب كفاح شعبنا العادل وصموده في وجه ما يتعرض له من محرقة ومن توسعة كولونيالية متدحرجة .
غير أن ما تلاها من اندفاع أميركي– إسرائيلي تحت عنوان “خطة ترامب”، والمهزلة الكوميدية لمؤتمر شرم الشيخ ، جاء كهجمة مرتدة لإفشال تلك الجهود ، ولوقف مسلسل الأعترافات المتتالية بالدولة الفلسطينية من جهة ، ولعزلة إسرائيل من جهة أخرى ، وإعادة هندسة المشهد الفلسطيني بما يضمن بقاء الأحتلال وهيمنة واشنطن على المنطقة .
الترامبية ، بوصفها نهجاً لا مجرد شخص، أعادت تعريف مفهوم “السلام” ليصبح سلاماً يُنفذ بالحروب ، وسلاماً اقتصادياً بلا سيادة وطنية ، واكذوبة تنمية تحت الأحتلال دون حرية . وهي تستند إلى شخصية ترامب بما تحمله من نرجسية وتقلب وتناقض في المواقف ، وإلى مفاهيم الفاشية السياسية–الاقتصادية التي تمتد من تهديد فنزويلا والصين وروسيا ولبنان وكولمبيا وغيرهم من الدول ، إلى الضغط على أوروبا ومحاولات فرض التفوق الأميركي على العالم .
وفي الوقت ذاته ، لا يمكن فصل الهجمة الترامبية الخارجية عن مظاهر الأزمة الداخلية في الولايات المتحدة نفسها، حيث تتصاعد الاحتجاجات تحت شعار “لا نريد ملكاً” رفضاً لنزعات التسلط ومحاولات تحويل الرئاسة إلى سلطة فوق المؤسسات . تلك الموجة تعبر عن ارتداد الديمقراطية الأميركية على ذاتها ، بعدما حاولت تصدير نموذجها إلى العالم ، بينما تعجز اليوم عن حماية توازنها الداخلي . فبينما تسعى واشنطن لفرض وصايتها على الشعوب الأخرى عبر القوة ، تتكشف داخلها أزمة شرعية عميقة عنوانها تآكل الثقة بالمؤسسات ، وانقسام المجتمع حول مفهوم السلطة والحرية ، كما تتجلى إلى جانبها أزمة بنيوية متدحرجة لدى حليفتها الإستراتيجية إسرائيل ، تزيد من احتمالات التعامل معها من خلال توسعة الحروب في المنطقة واستمرارها عل في غزة .
وبالتالي ، فإن الرهان اليوم على التعامل مع “الملك ترامب” أو التطبيع مع نهجه السياسي ، بعيداً عن تدويل قضيتنا الوطنية التحررية ، لا يُفقدنا فقط استقلالية القرار الوطني ، بل يُضعف صدقية الموقف الفلسطيني أمام شعوب العالم المنتفضة ضد منطق القوة والهيمنة والاستعمار ، بما فيها قطاعات واسعة من الرأي العام الأميركي ذاته، التي بدأت تُدرك خطورة توجهات ترامب وتسعى لتصحيح مسار الديمقراطية في بلادها .
إن المصداقية في الموقف ، وإدراك استحقاقات البعد التحرري والدولي لقضيتنا الوطنية ، ليست خياراً ، بل شرطاً من شروط النضال السياسي وأساساً لبناء التحالفات الدولية الصادقة مع الشعوب والدول التي تشاركنا الإيمان بالعدالة والحرية .
لكن هذا المشروع الترامبي ، المتجسد في خطته الأخيرة وما قبلها من “صفقة القرن”، رغم ضجيجه ، يبقى هشاً في ظل التحولات العالمية الجارية . فالعالم لم يعد أحادياً كما تسعى واشنطن لإبقائه . فمع تصاعد الانتفاضة العالمية من أجل فلسطين ، يتكسر مبدأ احتكار الرواية المزعومة ويُعاد الاعتبار لعدالة القضية بوصفها عنواناً للكرامة الإنسانية وحق الشعوب في تقرير مصيرها ، بل وجزءاً من نضال شعوب العالم حول حقوقها المدنية في أوسع ظاهرة تضامن دولي عبر التاريخ المعاصر .
إن استمرار عدوان القتل اليومي رغم إسقاط مؤامرة التهجير الإسرائيلي ، واستمرار تواطؤ بعض القوى الغربية ، بل وصمت البعض الإقليمي ، يشكل امتحاناً أخلاقياً للعالم . فالمطلوب ليس العودة إلى المسارات العبثية أو تكرار التجارب الفاشلة أو تدوير إدارة الصراع بما يخدم استمرار سيطرة الأحتلال ، بل الأستمرار في فضح إسرائيل ومحاسبتها وعزلها ، ومتابعة تنفيذ قرارات محكمة الجنايات الدولية والآراء الأستشارية لمحكمة العدل الدولية، والبناء على القرارات الأممية التي أكدت وقف عدوان الإبادة الجماعية وحق الشعب الفلسطيني في إنهاء الاحتلال وتقرير المصير وتجسيد الدولة المستقلة على حدود ما قبل الرابع من حزيران ١٩٦٧ وعاصمتها القدس الشرقية، وحل قضية اللاجئين وفق القرارات الأممية والقانون الدولي .
لقد أثبتت التجارب السابقة ، من تجربة دايتون في الأمن إلى تجربة توني بلير في “الإصلاح الاقتصادي تحت الاحتلال”، أن التنمية لا تُبنى في ظل القيد ، ولا تُدار السيادة من غرف المانحين ومؤتمراتهم ، ومنها لقاء لندن الجاري اليوم ، بعيدا عن مبدأ الإستقلال الوطني . فمشروع ترامب الجديد لا يختلف عن تلك المحاولات ، إذ يسعى لفرض واقع اقتصادي–أمني مشروط ، يُفرغ التحرر من مضمونه السياسي والوطني ، ويحوّل السلطة إلى إدارة محلية بلا سيادة .
إن مستقبل فلسطين لا يرسم سوى بإرادة الشعب وبشرعية قضيته وعدالة حقوقه السياسية اولاً ، بعيدا عن الوصايات الجديدة التي تحاول إعادة صياغة الوعي الوطني واحتواء القرار المستقل بأشكال "متجددة ".
أما فلسطينياً ، فالمطلوب إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني وتجسيد الإرادة السياسية على قاعدة المقاومة السياسية والقانونية والشعبية العقلانية الممكنة المستندة إلى الشرعية الأممية، وتفعيل دور الحركة الوطنية وبالمقدمة منها حركة "فتح" كقائد للتحرر الوطني ، وتوسيع المشاركة الشعبية من خلال الديمقراطية الأنتخابية كحق لشعبنا باعتباره مصدر السلطات دون تأخير ، والإعلان السريع عن "الدولة الفلسطينية تحت الأحتلال" وبتشكيل حكومة انقاذ تستند إلى التوافق الوطني الواسع ، تمارس صلاحياتها بمرجعية منظمة التحرير الفلسطينية كصاحبة الولاية الجغرافية والسياسية على كافة أراضي الدولة المحتلة ، بما في ذلك قطاع غزة، لقطع الطريق على محاولات إنشاء بدائل ومجالس أخرى تحت مسميات مختلفة تنتهك القانون الدولي وكافة الاتفاقيات .
لقد حذّرت تقارير أوروبية من أن استمرار خضوع السلطة الفلسطينية للضغوط الخارجية وقبولها بالشروط السياسية والاقتصادية المفروضة، سيؤدي إلى استنزاف ما تبقى من شرعيتها الهشة أصلاً بين ابناء شعبها وعل مستوى العلاقات الدولية ، ويفتح الباب أمام مزيد من التفكك الداخلي . وهو تحذير يعيد التذكير بأن الإصلاح الحقيقي الذي نحتاجه لا يُمنح بمرسوم أميركي ولا يُدار من غرف المانحين وبفعل الاشتراطات ، بل يُصنع من الداخل بإرادة وطنية مستقلة ومحاسبة حقيقية ومكافحة الفساد واستعادة الثقة الشعبية بالمؤسسات الوطنية .
إن ما يجري اليوم هو صراع بين الشرعية الدولية ومشروع الهيمنة ، بين إرادة الشعوب ومنطق القوة . وكما تحتاج الديمقراطيات الغربية اليوم إلى تجديد التزامها بروح المشاركة والرقابة والمساءلة ، فإن الحالة الفلسطينية بدورها تحتاج إلى تحصين خطابها السياسي بالدقة والمسؤولية والإرادة الوطنية والشفافية ، حفاظاً على وضوح الموقف الوطني أمام العالم ، وحمايةً لشرعية نضالنا من أي التباس يمكن أن يختطف جوهر رسالتنا العادلة ويعيدنا إلى عهود الأنتداب أو يضعنا تحت شروط الوصاية الجديدة.