صلاح حركة فتح هو صلاح للقضية الفلسطينية

الكاتب: د. محمد عودة
منذ انطلاقتها، لم تكن حركة فتح مجرد حركة سياسية، بل كانت رمزًا للمقاومة والوحدة الوطنية، والقوة التي قادت النضال الفلسطيني ضد الاحتلال، وأسهمت في وضع القضية على خريطة العالم. لم يقتصر دورها على العمل المقاوم بتفرعاته (الكفاح المسلح، السياسة، والدبلوماسية)، بل تعدى ذلك إلى بناء المؤسسات، وإرساء قواعد العمل التنظيمي الحديث في الضفة وغزة والشتات. تلك البداية التاريخية منحت حركة فتح قاعدةً شعبيةً واسعةً وشرعيةً قوية، لكنها اليوم تواجه واقعًا مختلفًا تمامًا، معقدًا ومتشابكًا، يفرض اختبارًا حقيقيًا لقدرتها على قيادة الشعب الفلسطيني في مرحلةٍ أكثر تحديًا.
على مرّ تاريخها، واجهت فتح أزماتٍ وتحدياتٍ جسامًا، من الهجمات المباشرة على قياداتها، إلى الانقسامات الداخلية والصراعات الإقليمية، وصولًا إلى الضغوط الدولية على القضية الفلسطينية. في كل مرة، استطاعت الحركة تحويل هذه الأزمات إلى فرصٍ للتجديد والتماسك، مستفيدةً من قوتها التنظيمية وارتباطها العميق بالجماهير الفلسطينية. تجربة الماضي أكسبت فتح خبرةً فريدةً في إدارة الصراعات الداخلية والخارجية، وهي نفس الخبرة التي تحتاجها اليوم لتجاوز التحديات المعقدة التي تواجهها.
سياسيًا، تتبنى الحركة المشروع الوطني وتحافظ على الثوابت، ومع ذلك فإن عدم إنجاز المشروع الوطني أسهم في تآكل شعبيتها. ورغم أن قيادة الحركة التاريخية لا زالت تقود ممثلةً في رئيسها الأخ أبو مازن، إلا أن جيل الشباب يطالب بالتغيير وفتح آفاقٍ أوسع للشباب والمرأة، مما يساعد على شراكةٍ حقيقيةٍ في صنع القرار. ورغم أن فتح تقود السلطة الفلسطينية في الضفة، إلا أنها شهدت تراجعًا في شعبيتها، خاصةً بين الشباب الذين يشعرون بالإحباط من بطء الإنجازات، إضافةً إلى الدعاية الهدّامة وتُهَم الخيانة التي تمارسها المعارضة، خاصةً الإسلام السياسي الذي بقصدٍ أو بغيره يلتقي مع الكيان الصهيوني في محاربة فتح، هذا التراجع انعكس مباشرةً على قدرتها على إنجاز مهامها كحركةٍ تقود البلد، ومع ذلك لا زالت الحاضر الأبرز في كل المحافل الإقليمية والدولية.
التحديات التنظيمية والاجتماعية ليست أقل حدّة؛ فالهيكل الداخلي للحركة يعاني من المركزية المفرطة، وضعف مشاركة الشباب في صناعة القرار، إضافةً إلى تعثّر ممارسة الحياة الديمقراطية في الوقت المحدد. كما أن الانقسامات بين المحافظ والإصلاحي تجعل مهمة استعادة الثقة مع القاعدة الشعبية أكثر صعوبة. على الصعيد الاجتماعي، فقدت فتح جزءًا من الروابط التي كانت تربطها بالمجتمعات المحلية، خصوصًا في المخيمات والمدن التي شهدت ظهور منافسين سياسيين لديهم مؤسساتٌ مدنيةٌ فاعلة، ما زاد شعور الشباب بالإحباط والتهميش، وانتشرت الانتقادات على وسائل التواصل وفي النقاشات اليومية. ومع ذلك، فإن تاريخ الحركة يذكرنا بأن كل أزمة كانت فرصةً لتقوية البنية التنظيمية، وإعادة الربط مع القاعدة الشعبية، وتحفيز الشباب على المشاركة، وهذا ما تسعى الحركة لفعله اليوم.
الحرب على غزة وضعت الحركة أمام اختبارٍ صعب، فهي لم تُختبر فقط في موقفها من العدوان، بل كشفت حدود قوتها ونفوذها على الأرض. سيطرة حركات المقاومة الأخرى مثل حماس والجهاد الإسلامي على القطاع جعلت فتح أقل قدرةً على حماية غزة أو التأثير المباشر في مجريات الأحداث. هذا الواقع زاد من الضغوط على السلطة الفلسطينية في الضفة، داخليًا من الجمهور، وخارجيًا من المجتمع الدولي، وأسهم في تراجع المصداقية الشعبية لفتح مقارنةً بالفاعلين الميدانيين على الأرض. إلا أن التجارب السابقة علمت فتح كيف تحوّل الضغوط إلى فرصٍ لاستعادة الحاضنة الجماهيرية.
ورغم كل المعوّقات من حصارٍ سياسيٍّ وماليٍّ تفرضه إسرائيل وحلفاؤها على السلطة الفلسطينية المحسوبة على فتح، إلا أن فتح تمكنت من تعزيز صورتها الرمزية عبر معركةٍ شرسةٍ خاضتها من خلال العمل السياسي والدبلوماسي والقانوني. تجلّت المعركة في مبادراتٍ سياسيةٍ جادة، واعتراف غالبية دول العالم بدولة فلسطين، مما مكنها من استعادة دورها على الساحة الدولية. إضافةً إلى ذلك، أسهمت نتائج انتخابات النقابات الأخيرة (الطب المخبري، الأطباء، المحامين، المهندسين، الطب البيطري وعلى الطريق أطباء الاسنان) في منح الحركة دفعةً قويةً على مستوى الشارع الفلسطيني، إذ أظهرت قدرتها على الاستجابة لتطلعات الشباب والمجتمع المدني. فقد شهدت الانتخابات مشاركةً واسعةً من الفئات الشابة، وتمكنت فتح من حصد ثقة الكثيرين عبر تقديم مرشحين يعكسون طموحات هذه الفئة، مما أعاد بعض الحيوية إلى عملها الداخلي، وعزّز من صورتها كحركةٍ قادرةٍ على التجديد والتفاعل مع احتياجات القاعدة الشعبية. هذه النتائج لم تكن مجرد نجاحٍ تنظيمي، بل كانت أيضًا رسالةً سياسية مفادها أن فتح قادرةٌ على التكيّف مع الواقع الجديد، واستعادة الشرعية الشعبية تدريجيًا، خصوصًا بين الشباب الذين يمثلون المستقبل السياسي للفلسطينيين.
اليوم، تقف فتح عند مفترق طرقٍ مهم؛ فالعدوان على غزة وجرائم الحرب، التي راح ضحيتها عشرات الآلاف بين شهيدٍ وجريح، إضافةً إلى تلاشي إمكانية أن تحقق حكومة حماس أهدافها المعلنة في "طوفان الأقصى"، كل ذلك أظهر حدود نفوذها السياسي والاجتماعي والتنظيمي، وأظهر أيضًا الحاجة الملحّة للإصلاح الداخلي واستعادة الحاضنة الجماهيرية. مستفيدةً من خبرتها التاريخية في تجاوز الأزمات، تستطيع فتح أن تستعيد مكانتها كحركةٍ جامعةٍ وفاعلةٍ ومؤثرةٍ في جميع الأراضي الفلسطينية، وتثبت أن دورها التاريخي ما زال حاضرًا، قادرًا على مواجهة التحديات المعاصرة بكل ثقةٍ وفاعلية. إعادة الحياة التنظيمية إلى قواعد الحركة، إشراك الشباب والمرأة، تطبيق اللوائح الداخلية، وتجديد الشرعيات بشكلٍ دوري — كل ذلك يسهم في تقصير عمر الاحتلال، ويقرّب من إنجاز المشروع الوطني من خلال تجسيد حق تقرير المصير، وتجسيد الدولة على كامل الأراضي التي احتلت عام 1967، لتتحول فلسطين من عاملِ غيابٍ للأمن والسلم الدوليين، إلى عاملِ استقرارٍ وازدهارٍ للمنطقة والعالم.