الطقس
Loading...
أوقات الصلاة
الفجر 4:30 AM
الظهر 11:23 AM
العصر 2:30 PM
المغرب 4:59 PM
العشاء 6:15 PM
العملات
Loading...
ترددات البث
جنوب فلسطين FM 96.8
أريحا و الأغوار FM 96.8
وسط فلسطين FM 98.3
جنين و الخليل FM 98.3
شمال فلسطين FM 96.4

تجديد الحركة الوطنية الفلسطينية أم ميلاد حركة جديدة؟

الكاتب: هاني المصري

بعد عامين من الإبادة والتطهير العرقي والتجويع الجماعي في غزّة، تدخل فلسطين، ومعها المنطقة والعالم، مرحلةً جديدة تختلف جذرياً عما قبل "7 أكتوبر" (2023). فالمشهد الإقليمي والدولي في حالة سيولة غير مسبوقة؛ قوىً تتراجع وأخرى تتقدّم، ومفاهيم وترتيبات سياسية وأمنية تتغيّر بسرعة، تجعل ما كان صالحاً في الماضي غير قابل للاستمرار اليوم.
وينطبق هذا التحوّل أكثر ما ينطبق على الفلسطينيين وحركتهم الوطنية، التي تقف أمام منعطفٍ تاريخيٍّ يشبه لحظات ما بعد نكبة 1948 وهزيمة 1967، بل ربّما أشدّ عمقاً وخطورةً، وأكبر دليل على ما سبق أن المطروح تصفية القضية بمكوّناتها كلّها من خلال فرض وضع الفلسطينيين بين خيارين كلاهما مرّ: الإبادة الجماعية أو الفصل العنصري، أو مزيج منهما. وفي أحسن الأحوال "أوسلو" ناقص أو زائد، كما يتضح من خطّة الرئيس الأميركي دونالد ترامب التي تهدف إلى إنقاذ إسرائيل من نفسها في مواجهة العزلة والحملة العالمية المتصاعدة ضدّها، والتحضير لتشكيل مجلس وصاية على قطاع غزّة، ونزع السلاح، وإبعاد حركة المقاومة الإسلامية (حماس) عن الحكم من دون عودة السلطة إلى قطاع غزّة، إلا بعد وفائها بشروط تعجيزية لا تستطيع الوفاء بها، الأمر الذي إذا طبّق يُكرّس التعامل مع جزء حي وأصيل من الشعب الفلسطيني في غزّة أفراداً يتم تلبية احتياجاتهم الإنسانية ما داموا يقبلون العيش تحت السيطرة الخارجية، بلا هُويَّة ومن دون حقوق وطنية، كما يعمّق فصل الضفة الغربية عن قطاع غزّة، ويمكن أن يكون بروفة لتطبيقها بعد ذلك في الضفة، بما يقطع الطريق على تجسيد استقلال الدولة الفلسطينية. رغم ذلك، ليست خطّة ترامب قدراً محتوماً، بل يمكن إحباطها والسير في طريق تؤدّي إلى دحر الاحتلال وإنجاز الحرية والاستقلال إذا كانت استجابة القيادة الفلسطينية، ومختلف مكوّنات الحركة الوطنية، بمستوى اللحظة التاريخية.

رُوِّج "أوسلو" ممرّاً إجبارياً نحو الدولة الفلسطينية، لكنّه في الحقيقة أسّس لتنازلات كبيرة مقابل وعود غامضة

... بعد نكبة 1948 عاش الفلسطينيون مرحلة التشرّد والضياع، وعُوملت قضيتهم قضيةً إنسانية بلا عنوان وطني. عبّر المشروع الوطني الفلسطيني عن نفسه من خلال رفع شعار التحرير، وانخرط كثير منهم في الحركات القومية والدينية والأممية بحثاً عن استعادة الحقوق، إلى أن أطلقت حركة فتح الكفاح المسلّح، وأُسّست منظّمة التحرير التي أعادت تعريف القضية باعتبارها حركة تحرّر وطني، وأعادت الاعتبار للهُويَّة الفلسطينية، وأبرزت أهمية الدور الخاص للشعب الفلسطيني على أساس أنه القاطرة التي تقود من دون إهمال الأدوار الأخرى العربية والدولية، وتبنّت الثورة مشروع التحرير والكفاح المسلّح شكلاً منسجماً مع الهدف وطريقاً وحيداً أو رئيساً. وقد بلغت الثورة الفلسطينية ذروتها بعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967، حين احتاج النظام العربي المهزوم إلى الثورة لتغطية عجزه وإحياء شعار "ما أُخذ بالقوة لا يُستردّ إلا بالقوة". ثم مع تعافي الأنظمة العربية وتغيّر مقاربتها السياسية، بدأت عملية احتواء الثورة وتقليم أظافرها، خاصة بعد خروجها من الأردن ثمّ لبنان، بالتوازي مع انتقال النظام العربي من شعار "اللاءات الثلاث" إلى خيار إزالة آثار العدوان عبر التسوية والمفاوضات.
وجدت الحركة الوطنية نفسها، حتى لا تُشطَب، مضطرّة للتكيف مع المتغيّرات الإقليمية والدولية، واستبدلت شعار التحرير بشعار الاستقلال، حتى تبقى لاعباً سياسياً، وهذا ليس بالضرورة أن يحدث من خلال الأوهام الضارّة والرهانات الخاسرة التي أدّت إلى تقديم التنازلات واعتماد المفاوضات من دون الإمساك بأوراق القوة والتركيز في تغيير موازين القوى على الأرض، فهناك طريق آخر كان سيؤدّي إلى نتائج أخرى غير التي انتهت إليها، فانتقلت من شعار "التحرير" إلى شعار الاستقلال، الذي بدأ باعتماد "السلطة الوطنية على أيّ جزء يتم تحريره"، وصولاً إلى مشروع "الدولة الفلسطينية على حدود 1967". ومع الزمن، تحوّل الكفاح المسلّح من خيار رئيس إلى مجرّد تكتيك، قبل أن تُستبدَل به المفاوضات خياراً شبه وحيد.
بلغ هذا المسار ذروته في اتفاق أوسلو عام 1993، الذي رُوِّج ممرّاً إجبارياً نحو الدولة الفلسطينية، لكنّه في الحقيقة تضمّن وأسّس لتنازلات كبيرة مقابل إنجازات محدودة ووعود غامضة. فشلت هذه المقاربة في قمّة كامب ديفيد العام 2000، حين تبيّن أن المطلوب هو التخلّي عن اللاجئين والقدس مقابل "دولة منقوصة" ضمن الجدار والاستيطان، أي ضمن "أراضٍ محتلّة" وليس "الأراضي المحتلة".
بعد فشل أوسلو واغتيال ياسر عرفات تنفيذاً لما جاء في خطاب جورج بوش الابن (يونيو/ حزيران 2002)، صعدت قيادة فلسطينية جديدة تبنّت مقاربة "التعايش مع الواقع" و"تنفيذ الالتزامات من جانب واحد" و"سحب الذرائع"، والاندماج في النظام الأمني والإقليمي الجديد أملاً في "إنقاذ ما يمكن إنقاذه". ومع تحوّل المفاوضات غايةً في حدّ ذاتها، تقلّص المشروع الوطني إلى هدف "الحفاظ على السلطة" في الضفة الغربية و"بقاء القيادة".

تعيش الحركة الوطنية الفلسطينية استنزافاً وتيهاً غير مسبوقين: غياب مشروع موحّد وانقسام وتآكل في الشرعية 

تعمّق هذا الاتجاه بعد "11 سبتمبر" (2001)، وبعد مبادرة السلام العربية عام 2002 التي لم تُطرَح للتنفيذ، بل للتعويض عن مشاركة سعوديين في أحداث سبتمبر/ أيلول، بدليل أنها لم يكن لها أنياب ولم تقد إلى عملية سياسية، عرضت التطبيع الكامل مقابل انسحاب إسرائيلي كامل من الأراضي المحتلة عام 1967. لكن حكّام تل أبيب، بدعم أميركي، قلبوا المعادلة في ما بعد لتصبح في فترة رئاسة ترامب الأولى التطبيع أولاً، ما مهّد لاتفاقات أبراهام، وتراجع الموقف العربي الجماعي لصالح إدماج إسرائيل في المنطقة من دون إنهاء الاحتلال وبلا ثمن سياسي متناسب، والخطورة أن يستأنف التطبيع الآن (أو بعد حين) إذا هُزِمَت المقاومة ونُزِع سلاحها و"كي وعي الشعب الفلسطيني"، بعد أن تسكت مدافع الحرب ويبدأ "مجلس السلام، و"قوة الاستقرار" العمل في القطاع. هذا طبعاً إذا سارت الأمور وفق ما خطّط له حكّام واشنطن وتل أبيب، ولكن هذا السيناريو ليس السيناريو الوحيد، بل يمكن إحباطه.
شهد الإقليم خلال العقدين الماضيين صعود مشاريع متنافسة: الإيراني، والتركي، والإسرائيلي، مقابل محاولات عربية خجولة وغير مثابرة لبلورة مشروع مستقلّ يوازن بينها، بينما المفترض التمييز بين الأعداء الذين يهدفون إلى الهيمنة والاستعمار، والخصوم والجيران الذين يهدفون إلى زيادة نفوذهم الحيوي. ترافق ذلك مع تحوّلات في النظام الدولي: تراجع الأحادية الأميركية، وصعود الصين وروسيا والهند وغيرهم، واتساع هامش الحركة أمام بعض الدول العربية لتنويع مصادر سلاحها وتوسيع تبادلها التجاري، ولبناء تحالفات جديدة، وهذا الاتجاه مهم أن يتعمّق ليصل إلى بلورة مشروع عربي يضع حدّاً للتنافس والصراع في أرض العرب وثرواتهم وأسواقهم وموقعهم الاستراتيجي بمعزل عنهم.
في هذا السياق، مثّلت حرب غزّة لحظةً كاشفةً لانكشاف المشروع الإسرائيلي ذاته، إذ تحوّل من مشروع احتلال وفصل عنصري وتوسّع وضمان تفوق وردع إلى مشروع تهجير وإبادة وضمّ وإقامة إسرائيل الكبرى، وهيمنة على الشرق الأوسط، ما ولّد ردّات فعل غير مسبوقة، خصوصاً بعد العدوان على الدوحة، من دول المنطقة والعالم، وردات فعل شعبية عالمية غير مسبوقة، جعلت نتنياهو نفسه يقول إن الخطر الوجودي على دولة الاحتلال انتقل من الخطر الإيراني إلى خطر العزلة، وشبّه إسرائيل بإسبارطة، وهذا فرض عزلةً أخلاقية وسياسية على إسرائيل أساساً في الغرب حليفها الاستراتيجي. هذه الموجة الشعبية العارمة وتأثيرها في الحكام والحكومات، تمثّل فرصةً تاريخيةً للفلسطينيين لإعادة بناء مشروعهم الوطني على أسس جديدة، وتحويل إحياء القضية الفلسطينية على الصعيد العالمي إنجازات سياسية كبرى.
... ممّا يعيق تحويل المأزق فرصةً وطريقاً إلى الانتصار، ما تعانيه الحركة الوطنية الفلسطينية من حالتي استنزاف وتيه غير مسبوقتين: غياب مشروع سياسي موحّد واقعي ووطني وكفاحي وقابل للتحقيق، وانقسام داخلي عميق، وتآكل في الشرعية والتمثيل. فقد انتقلت من مشروع التحرير إلى مشروع الاستقلال، ثمّ إلى مشروع البقاء، وتذبذبت بين الإغراق بالواقعية من دون خيال، أو التحليق بالخيال بعيداً عن الواقع، وعليها أن تبلور مشروعاً سياسياً واقعياً طموحاً على أساس هدف مركزي وشكل نضال مناسب له لتحقيقه، في ظلّ أن بقاء الشعب في أرضه وقضيته حيّة هو الأولوية.
وفي غياب المفاوضات منذ 2014، تحوّلت القضية الفلسطينية ملفّاً إدارياً أمنياً داخل إسرائيل، أكثر منها مشروعاً استعمارياً استيطانياً أو حتى أرضاً محتلّةً وقضيةَ تحرّر وطني أو حتى من دون مفاوضات من أجل التوصل إلى تسوية، فيما استمرّت القيادة الرسمية في تبنّي استراتيجية الانتظار والنأي بالنفس وسحب الذرائع التي قادت إلى عكس ما ترمي إليه، حتى خلال حرب الإبادة في غزّة، متجاهلةً أن الهدف الإسرائيلي النهائي هو تصفية القضية ومكوّناتها كافّة، بما فيها السلطة ذاتها بوصفها تجسّد الهُويَّة الوطنية ووحدة الضفة والقطاع، ويمكن أن تقود إلى دولة فلسطينية.
في الجانب الآخر، شكّلت انطلاقة حركة حماس في أواخر الثمانينيات محاولةً للعودة إلى مشروع التحرير من خلال الربط بين القضية الفلسطينية والمشروع الإسلامي، مستفيدةً من أزمة خيار المفاوضات والرهان على الحلّ السياسي وموجة الصعود الإسلامي بعد الثورة الإيرانية. إلا أن الحركة نفسها اضطرت لاحقاً للتكيف مع الواقع، خصوصاً بعد هبوط مشروع الإسلام السياسي بعد صعوده السريع في ما عرف بـ"الربيع العربي"، فقبلت عملياً ببرنامج الاستقلال من دون اعتباره برنامجَ المرحلة، وإنما برنامج الحدّ الأدنى المشترك، كما ظهر في "وثيقة الأسرى" عام 2006، ووثيقتها السياسية عام 2017، التي أعلنت فيها وقف علاقتها التنظيمية بجماعة الإخوان المسلمين، وحافظت على هدف التحرير هدفاً نهائياً. لكن هذه التعديلات لم تمنع انقسام النظام السياسي الفلسطيني، بل عمّقته، فتحوّلت الثنائية والاستقطاب الحادّ بين "فتح" و"حماس" من تنوّع مشروعين وبرنامجين إلى صراع على السلطة والقيادة والتمثيل وأشكال النضال، ما جعل النظام السياسي برمّته عاجزاً عن بلورة رؤية موحّدة أو قيادة جامعة.
في ضوء ذلك، يُطرح سؤال جوهري: هل المطلوب تجديد الحركة الوطنية القائمة وإعادة بنائها على أسس جديدة؟ أم أن الواقع يفرض ميلاد حركة وطنية جديدة تعبّر عن روح المرحلة وتوازناتها في حال لم تجدّد الحركة القائمة نفسها، فتكون قادرةً على مواجهة التحدّيات والمخاطر وتوظيف الفرص المتاحة؟ أم يمكن الجمع ما بين هذا وذاك؟

إمّا أن تُجدّد الحركة الوطنية الفلسطينية نفسها ومشروعها، أو تُفسح المجال لولادة حركة جديدة

تشير التجربة التاريخية إلى أن الشعب الفلسطيني كلما انهارت حركته الوطنية، أطلق من رحمه مشروعاً سياسياً جديداً، وحركةً جديدة أكثر قدرة على التعبير عن الواقع والحقوق. وربّما قد نكون اليوم أمام لحظة مشابهة. واستناداً إلى نقاشات وأوراق عديدة نتجت من عشرات الورشات وعديد من المؤتمرات، التي عقدها مركز مسارات، يمكن القول إن المشروع الوطني المناسب للمرحلة الراهنة يمكن أن يرتكز على ثلاثة أهداف استراتيجية مترابطة: أولها أن المرحلة الراهنة هي مرحلة دفاع استراتيجي ووقاية، لا هجوم وتحرير شامل. الهدف المباشر هو حماية القضية من مخطّط التصفية عبر الضمّ والاستيطان والتهجير والوصاية الأجنبية، وضمان بقاء الشعب الفلسطيني في أرضه وصون مؤسّساته وكيانه السياسي وتوفير مقوّمات صمود قضيته حيّة، بما في ذلك استنفاد إمكانات إعادة بناء منظمة التحرير على أسس ديمقراطية وتمثيلية حقيقية، وكذلك استنفاد إمكانية تغيير السلطة، حتى تكون أداةً في خدمة المشروع الوطني. وإذا لم يحدث لا هذا ولا ذلك، سيتكفّل الشعب برسم ملامح المشروع الوطني الجديد والأدوات المناسبة لتجسيده.
يتعلّق الهدف الثاني بالحرية والاستقلال على حدود 1967، واعتبار أن الصراع الدائر حالياً يتمحور حول مصير الضفة الغربية وقطاع غزّة، حيث يعيش أكثر من خمسة ملايين فلسطيني في مواجهة حوالي مليون مستوطن ينفّذون مشروع الضمّ الاستيطاني. يمكن أن يحظى هذا الهدف بإجماع وطني وعربي ودولي واسع، لكنّه لن يتحقّق جراء عدم وجود شريك إسرائيلي للسلام عبر المفاوضات فقط، ولا أساساً، بل من خلال مزيج من المقاومة الشعبية، والعمل الدبلوماسي والتدويل، والمقاطعة والمساءلة والمحاسبة والعقوبات الدولية، مع الدفاع عن الحقوق والحفاظ على حقّ الشعب في مقاومة الاحتلال بكل الوسائل المشروعة. ... الهدف الثالث، حقّ تقرير المصير للشعب الفلسطيني بأسره. وهو الهدف الاستراتيجي الأبعد الذي يعالج جوهر القضية قضيةَ لاجئين وحقوقاً تاريخية، ويعيد فتح النقاش حول خيار الدولة الواحدة الديمقراطية حلّاً نهائياً بعد تفكيك المشروع الصهيوني الاستعماري.
الحركة الوطنية الفلسطينية اليوم أمام مفترق طرق تاريخي، إمّا أن تُعيد تجديد نفسها ومشروعها على أسس ديمقراطية مقاومة قادرة على التفاعل مع المتغيّرات الإقليمية والدولية وتوظيفها، وإمّا أن تفسح المجال أمام ولادة حركة وطنية جديدة تعبّر عن الواقع والمستقبل معاً. فالتاريخ الفلسطيني الممتد لأكثر من قرن يثبت أن هذا الشعب لا يستسلم للانكسار، بل يُعيد ولادة ذاته في كل مرحلة بأشكال جديدة تعكس وعيه العميق بحقوقه وبحتمية النهوض من تحت الركام.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر شبكة راية الإعلامية.
Loading...