من الامتثال الإجرائي إلى خلق القيمة الاستراتيجية.. خمس ركائز استراتيجية تجعل مجالس الإدارة محركًا للتغيير واستدامة المؤسسة في العصر الجديد
الكاتب: شيرين السيد
في ظل سياق استراتيجي عالمي وإقليمي يتسم بتقلبات جيوسياسية حادة، وضغوط اقتصادية متصاعدة، وتحول رقمي متسارع، ومخاطر سمعة فورية، لم يعد الدور التقليدي لمجالس الإدارة في العالم العربي وفلسطين كافياً لضمان الاستدامة.
تفرض هذه القوى المضطربة تحولًا جوهريًا وحتمياً في هوية المجلس، إذ لا بد له من تجاوز وظيفته التاريخية كـ "غرفة لمراجعة الأرقام"، ليضطلع بدوره المحوري كـ "قيادة استراتيجية تولّد القيمة وتحصّن المؤسسة ضد الصدمات".
يقدّم هذا المقال خارطة طريق عملية، مبنية على خمس ركائز استراتيجية، لتمكين مجالس الإدارة من قيادة هذا الانتقال النوعي: من المراقبة إلى المبادرة، ومن الامتثال إلى التأثير.
تبدأ هذه الرحلة من حجر الزاوية الذي تقوم عليه كل مؤسسة قادرة على الصمود: ثقافتها المؤسسية.
الركيزة الأولى: الثقافة المؤسسية... صون الثقة وقياس النزاهة
لم تعد الثقافة المؤسسية عنصراً "ناعماً" أو ثانوياً، بل أصبحت ركيزة استراتيجية حاسمة للثقة، وخط الدفاع الأول ضد المخاطر التشغيلية ومخاطر السمعة.
يجب على مجلس الإدارة تجاوز محدودية الدور الخاص بمراجعة الالتزام بالنصوص والقوانين، ليمتد دوره إلى قيادة واختبار السلوك الفعلي على أرض الواقع، والتأكد من أن منظومة القيم ليست مجرد شعارات، بل ممارسة حية.
لتحقيق ذلك، يتوجب على المجلس طرح أسئلة جوهرية وعميقة تقيس نبض المؤسسة الحقيقي، مع التركيز على الربط المادي للقيمة الأخلاقية:
• هل تُكافأ النزاهة بشكل فعلي وملموس؟
• هل يُدار تضارب المصالح بصرامة دون استثناءات في الهياكل العائلية؟
• هل قنوات الإبلاغ عن المخالفات مستقلة وآمنة ولا تُعرّض المبلّغين للتهديد أو الانتقام؟
إن الأداة المحورية لتحويل هذه المفاهيم إلى قيمة اقتصادية ملموسة تكمن في اعتماد أطر الحوكمة الرشيدة المعترف بها دولياً مثل (ISO 37000) وأنظمة إدارة الإبلاغ (ISO 37002). توفر هذه الأطر منهجية واضحة تمكن المجلس من قياس الثقافة المؤسسية وربطها بشكل مباشر بقرارات تخصيص الموارد المادية والمكافآت، مما يؤثر مباشِرة على الأداء المالي.
مؤشرات قياس صحة الثقافة:
• جودة ونسب معالجة البلاغات المبلغ عنها.
• اتساق الحوافز والتعويضات مع القيم المؤسسية.
• معدلات دوران الكفاءات (Turnover) والاحتفاظ بها (Retention) لأسباب مرتبطة بثقافة المؤسسة.
• عدد البلاغات الجادة حسب المستويات الإدارية.
• عدد الاجتماعات بين الإدارة الوسطى والدنيا والعليا.
الركيزة الثانية: الجاهزية للمجهول كشرط لـ "الصمود المؤسسي"
في ظل تصاعد الاضطرابات الجيوسياسية والمناخية والاقتصادية، لم تعد الجاهزية للمخاطر غير المتوقعة ترفًا، بل شرطًا حتميًا للاستمرار والصمود.
يجب على مجلس الإدارة أن يقود منظومة متكاملة للمرونة التنظيمية تدمج بين تخصصات كانت تعمل سابقًا بشكل منفصل، مثل الأمن السيبراني، واستمرارية الأعمال، وإدارة الأزمات، واختبارات الضغط. ويجب بناء هذه المنظومة بالاستناد إلى أطر دولية معتمدة مثل (ISO 22301) لإدارة استمرارية الأعمال و(NIST CSF 2.0) للأمن السيبراني.
الإجراءات العملية - تحويل الجاهزية إلى قدرة استراتيجية
• وضع خطط متعددة السيناريوهات بملكيات وسلاسل قرار واضحة. (خطط الاستجابة)
• إجراء تمارين محاكاة دورية لأزمات مرقّمة ومتقاطعة لقياس الفاعلية وسد الفجوات. (التمارين والمحاكاة)
• تطوير خرائط بدائل وموردين احتياطيين لضمان الاستمرارية وتخفيف مخاطر الاعتماد على مصدر واحد. (سلاسل التوريد)
• اعتماد بروتوكول اتصالات للأزمات يراعِي السياق المحلي ومنصات التواصل لحماية السمعة. (الاتصالات في الأزمات)
مؤشرات قياس فاعلية الجاهزية: يعتمد المجلس على مؤشرات أداء رئيسية للجاهزية مثل: زمن التعافي المستهدف، زمن الاستجابة للحادث، زمن اكتشاف الحادث، ونقطة استعادة البيانات.
الركيزة الثالثة: إصلاح المجلس كأساس لإصلاح المؤسسة
إن بناء القدرة على مواجهة الأزمات الخارجية يتطلب بالضرورة بناء قوة داخلية مماثلة في هيكل المجلس نفسه.
إن التنوع الحقيقي في مهارات وخبرات ووجهات نظر أعضاء مجلس الإدارة ليس مطلبًا شكليًا، بل هو رافعة استراتيجية مباشرة تؤدي إلى قرارات أدق وأكثر متانة، خاصة في الهياكل العائلية السائدة في المنطقة العربية.
1. تفعيل مصفوفة المهارات
الأداة المحورية لتحويل التنوع إلى قيمة عملية ملموسة هي "مصفوفة المهارات"، والتي يجب استخدامها بفاعلية من خلال:
• تشخيص فجوات الخبرة في مجالات حيوية صاعدة مثل: الذكاء الاصطناعي والرقمنة، الأمن السيبراني، الاستدامة، وإدارة المخاطر.
• ربط تشكيل اللجان وخطط التعاقب بنتائج هذه المصفوفة لضمان توافق المهارات مع التحديات الاستراتيجية.
2. إنهاء العمل في "الجزر المنعزلة"
يجب على المجلس إنهاء ممارسة العمل في "جزر منعزلة" بين لجانه المختلفة، وذلك من خلال:
• اعتماد ميثاق موحد للجان يضمن التنسيق وتقاسم المسؤوليات المتقاطعة.
• إجراء تمارين مخاطر متكاملة تشمل جميع اللجان مثل ربط مخاطر الأمن السيبراني بتقارير لجنة التدقيق.
• عقد اجتماعات تقاطعية دورية وإلزامية بين رؤساء اللجان لمناقشة القضايا الاستراتيجية المشتركة.
3. آليات الحوكمة الداخلية وتطوير الأداء
• تقييم دوري للأداء: يشمل تقييمًا ذاتيًا سنويًا وتقييمًا خارجيًا مستقلًا إلزاميًا كل عام لضمان الموضوعية.
• برنامج تعلم مستمر يضمن مواءمة الأعضاء مع أحدث المستجدات، والحوكمة البيئية، والذكاء الاصطناعي.
• أمانة سر فعّالة تضبط تدفق المعلومات بين الإدارة والمجلس، وتضمن جودتها وتوثيق القرارات بوضوح.
الركيزة الرابعة: من المستثمر إلى المجتمع... إدارة الطيف الكامل لأصحاب المصلحة
لقد تطور مفهوم الحوكمة من التركيز الحصري على مصالح المستثمر إلى ضرورة إدارة علاقة متكاملة وديناميكية مع جميع أصحاب المصلحة، بمن فيهم الموظفون والعملاء والموردون والجهات الرقابية والمجتمع.
الهدف هنا ليس التواصل الشكلي، بل الإدماج الفعلي لتوقعات هذه الأطراف في صميم الاستراتيجية المؤسسية وعمليات اتخاذ القرار.
خطوات الممارسة المنهجية:
• رسم خريطة شاملة لأصحاب المصلحة وتحديد أولوياتهم وتوقعاتهم.
• إجراء تقييم للأهمية النسبية لتحديد القضايا المالية وغير المالية الأكثر أهمية للمؤسسة ولأصحاب المصلحة.
• القياس والإفصاح عن الاستدامة: الإفصاح عن الأداء المتعلق بهذه القضايا وفق معايير واضحة.
• ربط النتائج مباشرة بعمليات تخصيص رأس المال وأنظمة حوافز الإدارة.
تطبيق هذه الممارسات يحقق فوائد مباشرة، أبرزها: تعزيز ثقة الأسواق والجهات التنظيمية عربياً، وتخفيض مخاطر السمعة والامتثال، وتحسين الوصول إلى التمويل بتكلفة أقل.
الركيزة الخامسة: الاستراتيجية كممارسة دائمة لا ملفًّا يُركَن
يتمثل الدور المعاصر لمجلس الإدارة في تحويل الاستراتيجية من ملف جامد إلى دورة تشغيلية حية تتفاعل مع متغيرات السوق.
يجب الحفاظ على حيوية الاستراتيجية عبر اختبار مستمر لفرضياتها، وإجراء مراجعات دورية مبنية على مؤشرات أداء ومخاطر واضحة، مع ربط مباشر بين شهية المخاطر وقرارات تخصيص رأس المال والنتائج المحققة.
أدوات الحوكمة للاستراتيجية:
• خريطة المخاطر المحدّثة.
• مصفوفة شهية المخاطر المعتمدة.
• لوحة قيادة استراتيجية على مستوى المجلس تركز على المؤشرات المتقدمة.
• جلسات تعميق استراتيجية: عقد جلسات إضافية خارج الدورة التقليدية لمناقشة السيناريوهات المفاجئة وتغيّر السياق.
توفر هذه الأطر لغةً ومنهجيةً واضحة للمجلس والإدارة لتعديل المسار عند تغيّر السياق. بهذه الطريقة، يتحول المجلس من مجرد جهة رقابية إلى "شيك رقابي" حقيقي للإدارة التنفيذية.
الخلاصة: من الامتثال الإجرائي إلى الميزة التنافسية المستدامة
في سياق عربي وفلسطيني متقلب، تُقاس فاعلية مجالس الإدارة بقدرتها على تحويل الحوكمة من إجراءات شكلية إلى منظومة متكاملة لتوليد القيمة.
تُرسخ هذه المنظومة من خلال:
• الثقافة: ترسيخ ثقافة نزاهة قابلة للقياس عبر ضوابط داخلية وإفصاحات معيارية.
• الجاهزية: تثبيت جاهزية مبنية على سيناريوهات تعافٍ وشهية مخاطر معتمدة.
• هيكل المجلس: معايرة تكوين المجلس وآليات عمله دوريًا وفق "مصفوفة مهارات" وربط محكم بين اللجان لوقف العمل في جزر منعزلة.
• أصحاب المصلحة: إدارة منهجية لعلاقات أصحاب المصلحة وفق "تقييم الأهمية النسبية".
• الاستراتيجية: تحويلها إلى دورة تشغيلية مرتبطة بالميزانية وتخصيص رأس المال ومؤشرات الأداء.
لذلك نوصي باعتماد "أجندة مراجعة ربع سنوية" متكاملة لمجالس الإدارة لتكون بمثابة نقطة التقاء للركائز الخمس. يجب أن تتضمن هذه الأجندة:
• لوحة قيادة للمؤشرات المتقدمة.
• خريطة مخاطر محدّثة مرتبطة بقرارات تخصيص رأس المال.
• تقرير ضمان مستقل من التدقيق الداخلي/الخارجي حول الثقافة المؤسسية والالتزام.
• محاضر قرارات تتضمن ملكياتًا وجداول زمنية محددة لتطبيق القرارات.
من خلال هذه الممارسات المنهجية، تنتقل الحوكمة من كونها عبئًا إجرائيًا إلى ميزة تنافسية مستدامة تُحصّن السمعة، وتحسّن تكلفة رأس المال، وترفع قدرة المؤسسة على الصمود والنمو في أصعب الظروف.

