في ذكرى الانتفاضة؛ الفُرْجَة..بانتظار "غودو"!
الكاتب: المتوكل طه
***
إذا صادفَ أحدٌ الانتفاضةَ، فَلْيُسَلّم عليها.
ربّما اشتقنا لتلك الأيام الجليلة! لكنْ ما نريده، اليوم، هو؛ أن نعيشَ بكرامة..ونحيا ذكرى أجمل على الطريق. غير أنّ المرجل ينبيء بالغليان، وعلى العَالَم أن يصحو، ويسارع لسحب الفتائل، حتى لا يخسر الجميع..فما زال الإقليم أمام اختبار النار.
وإذا بقينا متكلّسين، فسيتحرّك غيرُنا، وقد لا يكون الأصلح، وسيفرض أجندته علينا، ما يوجب؛ ألّا يبقى أولو الأمر منتظرين "غودو" المُخَلِّص، الذي لن يأتي! وعليهم ألا يكتفوا بِ"الفُرجة"على الفظاعات والتعدّيات الفاشيّة، التي ستدفع الأمور إلى معيار الانفجار العشوائي الساخط. ويبدو أن مقايسة "المقاومَة" بما يحدثه الاحتلال من تدمير، جعل الكثيرين يقعون في خطيئة بنيويّة، تعتمد على الكمّ، ولا تبصر ضرورة مواصلة الكفاح حتى الخلاص، لأنّ المقاومة، بمعناها الشامل المتعدّد، السبيل الوحيد لبلوغ الغاية، شرط ألا يقتصر النظر على اللحظة، وما راكمته من حُطام.
وفي ذكرى الانتفاضة أؤكّد على أننا، اليوم، نفتقد فضائل أخلاقها، كما خسرنا وجدانها، واكتفينا ب"عقل" السياسي، المحكوم بالموازين المُختلّة، ومساوَمات الممكن وغير الممكن.
وقد عملت الانتفاضة على تسوية أوّل دربٍ، ليمضيَ شعبُنا إلى مستقبله، بعد أن عملت الثورة المعاصرة على تحطيم الصخور الكأداء، التي كانت تسدّ الطريق أمام خلاصنا. وبمعنى؛ أنّ هذه الانتفاضة قد أسّست لشكلٍ نضاليٍ شعبيٍ"سلميٍ"، يمكن توظيفه كلّما دعت الحاجة..خصوصاً بعد أن تراكمت الأسباب الداعية لذلك.
فالانتفاضة تلك، أنضجتها حالة القمع الاحتلالية المتواصلة، وحالة الوعي التي تعالت من مصدرين كبيرين؛ هما خرّيجي المعتقلات، والجامعات المحليّة. في حين أن انتفاضة الأقصى اللاحقة، أنضجتها حالة الإحباط والغضب وممارسات الدولة العبرية التي لا تطاق، وهوامش "الخطأ" المتواصل، فينا.
لقد كانت الانتفاضةُ إثباتاً ناصعاً على إمكانية تحقيق أحلام الجمهوريات المثالية أو اليوتوبيا، رغم الحالة الاستثنائية التي كان يعيش الناس تحت وطأتها، بل ربما ساعد وجود الاحتلال وتحدّيه، بتلك البسالة الجماعية المتواصلة، على سموّ الناس وارتفاعهم عن "عاديّتهم" واختراقهم الصورة الطبيعية المعتادة.
كانت انتفاضةً كاملة!
كان الفهد خارجاً بكامل سخونته، من الغابة البِكْر، يحمل قلبَ الريح، كأنه عاهل العاصفة. كان ريّاناً، مُشْبَعاً بغضب الأشجار التي ماتت واقفة، ولم تركع! وكان
صمته قِطَعاً من غضب الليل، الذي كَنَس البساطير الثقيلة من ليل المدن والقرى، وجعل يقظة الخوف أبديةً في حدقات الخونة والجنود.
هي صوت الرأس، وشعلة الجسد كلّه.
كانت صيحة إسرافيل الفلسطيني، الذي أيقظ الحَجَر والشجر والطير والينبوع، مثلما هي صحوة الجسد من خَدَر العملية الجراحية الفاشلة.
وكانت غيث كانون الواضح، وتردد الغيمة في عباءة العاصفة.
كانت الدخول الحاسم إلى بهاء الموت، برضى كامل، وما يشدّك إلى أن تغسل الأرض، كلّ الأرض، بوريدك الدفّاق.
تلك تاج المليحات، وأُمّ الحكايات، وقصّة الراوي الذي لن تنتهي لياليه. كما كانت مسرحية الكاتب المسلّح الناضج، الذي تقلّب على سفّود الجمر، وما فتئت تأكل كبده، ليل نهار.
تلك لَحمُ التفاحة الأحلى، والليلة التي لن ننسى لذعة السوسن فيها، أو حُرقة عجين ورقة الليمون، وصخب أُغنيات الأهل الفرحين. وهي زواج الوردة للمدى الدامي، في فضاء قاعة المدعوّين والشهود.
تلك شهوة الزيت، وانفعال الشفتين، ورضى الزوجات عن الغياب المليء بالدوالي والرسوخ. وهي البهجةُ بالموت العالي، والفجيعةُ باللوعة المجانيّة، أحياناً.
وتلك مقابسات ليالي القبر، التي أشرقت بالجنين الرسوليّ. وهي نهضةُ الفتى لتكتمل دروسه، وتصحو مداركه.
***
ويغيب الموسم الباذخ كلّه، اليوم، بإرهاصاته وحلقاته وأسواقه وتجمعاته! وتحضر هندسة الخراب، لتبعدنا أكثر عن فِطرة ما كان في ذلك الموسم، من حالات وحكايات، كأنّ الناس كانوا في موسم اسطوريّ، أو في حمأة بناء معبد كبير، أو كأنما يريدون تحويل نهر عظيم عن مجراه، أو إزاحة البحر إلى الوراء..لهذا؛ لم يتأخّر أحد. كان الجميع؛ أطفالاً وشباناً وشيوخاً في الحقل أو السجن أو أمام المتراس، وكانت النساء يكملن أعمالهن في البيت والحواكير، دون توقّف!
لقد تمّمت المرأةُ دورها الذي وفّرته لها الانتفاضة، حيث حلّت مكان زوجها الذي غاب؛ شهادةً أو اعتقالاً، فأصبحت أُمّاً وأباً. وعمّق حضورها ذلك الدور الاجتماعي المشرّف الذي ظهر في تشييع الجنازات، التي طالما انتهت باشتباك طاحن مع جنود الاحتلال، وفي عيادة الجرحى، ومواساة العائلات الثكلى، وزراعة المساكب والخضروات، وتطوير الاقتصاد البيتيّ.
ولم نسمع أحداً يسأل عن مصير أُسرته، وهو في عتمة الزنازين، أو في عين المواجهة الحمراء..لأنّ المناضل، وقتها، لم يكن "حالة إجتماعية"! ولم يتجرّا أحدٌ على هالات التطهريّة، واجبة الوجود. ولم يسقط رجل في إغراء المقارنة بين الطبقة المستريحة الحريرية، التي تشكّلت في السنوات الأخيرة قبل الانفجار العبقريّ، وبين أحوال الدهماء - هكذا يسميّهم البعض - وينظر إليهم على أنهم ليسوا أكثر من حطبٍ يصلح للاشتعال تحت طنجرة السياسة حتى تنضج، وبالتالي لا يأكل منها إلاّ الطبّاخون المعلمون أو السياسيون المَهَرَة.
وفي تلك الأيام؛ كان الانضباط أعلى في السنوات الثلاث الأولى، وكان جدار الانتفاضة صلباً، لم تخترقه الأصابع الخفيّة المدسوسة أو الشائعات السوداء. وكان الاستنفار كاملاً، ولهفة الناس حاسمة، حيث نكشوا بساتين بيوتهم وزرعوها، ورموا المنتجات الإسرائيلية، وكانوا أكثر قناعة بالتقشّف الحقيقي، الذي فاق زهْد الرهبان! ولم تكن حينها تلك المجموعة الطفيليّة، التي تشدّها مصلحتها، بصفتها كمبرادور يستورد البضائع الإسرائيلية، أو وكلاء لكبرى شركات الدولة العبرية..أو يدفعها طموحها الأجوف - بصفتها، كما ترى نفسها، مؤهّلة لوراثة الحكم، أو من أولي الأمر، الذين يجب أن يصنعوا القرارات المصيرية للشعب والقضية -.
وفي تلك السنوات، كانت فذاذة الانتفاضة تتمثّل في تحييد أسلحة الاحتلال الثقيلة، باعتمادها على الحجر والزجاجات والمقلاع، كما تتمثل، أيضاً، بالالتزام الحديدي والدقيق بالقرارات التي كانت تصدرها القيادة الوطنية الموحّدة، عبر بياناتها، آنذاك.
أيام الانتفاضة الكبرى كان لها لون واحد؛ هو الأبيض، الذي يسعى للانتصار على الأسود بكل مكوناته ومصادره.
في تلك الأيام؛ كانت روح الجنديّ المجهول تمور في ضلوع كلّ الناس، فكان التكاتف والتكامل والتكافل قد وصل إلى أقصى صوره ودرجاته، وأصبح الإيثار لغة منحوتة، لا يغلبها قولٌ جَهويّ مشبوه، أو صراخ حاسد، أو تشكيك مأجور.
تلك الانتفاضة غسلت الجسد الواحد من كل أدرانه وشوائبه، بعد أن صهرته في مرجل هائل، وسكبته لامعاً مضيئاً، لا طريق له إلا الأمام، بعد أن أحرقت، هنا
وهناك، تلك الجيوب المُعيبة؛ سواء أكانت بؤرة للمخدرات، أو تجلّيات السقوط الأخلاقي، أو بقعة كريهة متّصلة بالاحتلال، أو شقاوة مُريبة.
تلك كانت التاج الذي رأى مملكته الساحرة، والعُرْسَ الذي اكتمل إلى حدّ المعجزة، والحَجر الخرافي الذي حكّ هواء الفولاذ، فدبّت النار في هشيم الدنيا، وفهقت السماء بنجومها، فغاب الليلُ..إلاّ قليلاً، بانتظار الشروق الكبير.
لكنّهم اعترضوها بِ"أوسلو"، وقتلوا روحها بلغة"السلام"الكاذب الجنائزيّ الاستيطانيّ، الذي قاد إلى هندسة الوعي الفلسطيني خارج الإطار الوطني، وأدّى إلى إبادتين؛ إبادة جسدية ماحقة في غزّة، وإبادة لإرادة الشعب، وهضم الأرض في الضفّة. وما زلنا صامتين! وقد ذهبنا إلى الخلاص الشخصيّ، وتعلّلنا بسحب الذرائع. لكنّ الاحتلال، لا يحتاج إلى مبررات، لأن مهمّته، هي مواصلة التدمير والإبادة، وعلى كلّ المستويات والأماكن.

