غزة اليوم: من النزوح إلى فخ الوصاية المقنعة
الكاتب: د.سناء أبوشنب/ الشرافي
الاحتلال يعيد هيكلة قطاع غزة اجتماعياً وجغرافياً ومن ثم سياسياً
-غزة اليوم: من النزوح إلى فخ الوصاية المقنعة
يتجاوز المشهد في قطاع غزة كونه صراعاً عسكرياً تقليدياً؛ ليتحول إلى زلزالٍ يهزّ قواعد النسيج الاجتماعي والسياسي الفلسطيني، وبينما تتصارع القوى الدولية والإقليمية حالياً على تحديد ملامح المستقبل القريب، تظل الحقيقة المُرّة التي يخشى الجميع مواجهتها هي أن المشهد بأكمله مُهدَّد بالانهيار، إذ أن غزة اليوم تُدار بمنطق "خلق الفرص من رحم الفوضى"، فتحليل المعطيات الميدانية ومواقف الأطراف الفاعلة لا يقودنا إلى سيناريو واضح للحل، بل إلى مؤشرات مقلقة تشي بتمديد حالة الفراغ السياسي وفرض "وصاية مقنعة" طويلة الأمد قد تمهد إلى انتداب متعدد الأطراف.
-الكارثة المزدوجة، تمزق النسيج المجتمعي وتجتث اللاجئين
يفرض الاحتلال الإسرائيلي واقعاً مدروساً في قطاع غزة تحت مظلة الحاجة الإنسانية والإغاثية؛ لكنه يضرب في عمق الهوية الوطنية، فلغة الأرقام لا تكذب، بل تفضح حجم الكارثة بصمت مرعب، إذ يشكل لاجئو نكبة 1948 حوالي 70% من سكان القطاع، وها هو هذا النسيج، الذي اتسم تاريخياً بروابط قوية وهوية راسخة، يتعرض لـاجتثاث ثانٍ، لكن الفارق هذه المرة أن النزوح لم يعد إلى مناطق جغرافية بديلة، بل إلى فضاءات مكانية محدودة ومُغلقة، مما يهدد بتفكيك الروابط الاجتماعية، ويخفي أي أثر لمخيمات اللجوء التي كانت تمثل رمزاً للصمود وحق العودة، وكانت شاهداً على جريمة التهجير القسري لشعبنا الذي طرد من مدنه وقراه تحت قوة السلاح.
الأخطر من ذلك هو ما يلوح في الأفق الاجتماعي، حيث تشير الدراسات إلى أن أكثر من ثلثي الأطفال (حوالي 67.8%) يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، مما يضعنا أمام جيل كامل يعاني من "صدمة جماعية متجذرة" وعابرة للأجيال. يتزامن هذا مع واقع اقتصادي منهار حيث بات 80% من المعيلين عاطلين عن العمل، لتتحول الأزمة الاقتصادية إلى مأساة اجتماعية تضطر فيها 24% من الأسر لأن تُدار من قبل أطفال دون سن الـ 16، في انقلاب قسري وخطير للأدوار الاجتماعية.
-جغرافيا التفتيت، من الوحدة إلى الكانتونات:
امتدت إعادة الهيكلة لتطال التقسيم الإداري الرسمي للقطاع (365 كم²)، والذي يهدف إلى تحويل قطاع غزة إلى كانتونات تُدار إغاثياً، مع إبقاء المسار السياسي نحو الدولة المترابطة جغرافياً مؤجلاً ومشروطاً بتنفيذ "إصلاحات" غير محددة.

يُعدّ جنوب القطاع الأكثر اكتظاظاً، مما يجعله قنبلة موقوتة من الضغط الاجتماعي والأمني قد تنفجر داخلياً في أي لحظة. هذا الواقع المأزوم سيدعم خطط التهجير المقبلة، حيث ستظهر الهجرة اختيارية في شكلها الإجرائي، لكنها ستكون إجبارية بسبب جذورها الضاغطة.
- فخ "الإدارة الهجينة" وأزمة الشرعية:
في ظل هذا الواقع، تواجه القيادة الفلسطينية أزمة شرعية تُفاقم ضعفها التفاوضي وتُقلص تأثيرها الميداني في القطاع. فغياب الانتخابات منذ عام 2006 وتعطيل المجلس التشريعي يجعلان السلطة الوطنية الفلسطينية تفتقر إلى التفويض الديمقراطي اللازم لاتخاذ قرارات مصيرية كبرى، على الرغم من الاعتراف الدولي بها وعدم تنصلها من التزاماتها الخدماتية تجاه القطاع، بما يشمل رواتب الموظفين الحكوميين قبل الانقسام والصحة والتعليم والتنمية الاجتماعية. هذا الفراغ هو الثغرة التي تتسلل منها المشاريع المشبوهة، وأخطرها مشروع "الإدارة الهجينة الانتقالية".
يهدف سيناريو الإدارة الهجينة إلى تحويل غزة إلى "كيان خدماتي" تسيره إدارة مدنية تكنوقراطية مهمتها الرئيسية توزيع المساعدات وتنظيم الخدمات، وقوة شرطية تعمل تحت إشراف إقليمي، بينما تبقى السيادة الأمنية العليا والقرار النهائي بيد الاحتلال الإسرائيلي، إنه وصفة مثالية لتحويل الاحتلال العسكري إلى "احتلال اقتصادي وإداري" مريح، مع تعليق المسار السياسي نحو الدولة إلى أجل غير مسمى، بموازاة ذلك يعمل حلفاء إسرائيل على تقليص دور وكالة غوث وتشغيل اللاجئين من خلال وقف التمويل عنها، واستبدالها التدريجي بمؤسسات إغاثية تسيرها إدارة التكنوقراط ،وبهذا تكون إسرائيل قد نجحت في شطب مصطلح اللاجئين من قطاع غزة، وفصلت قطاع غزة إدارياً وسياسياً عن الضفة الغربية دون أن تظهر في الصورة، لأن المشرفين عن ما يسمى مصطلحاً بإنقاذ قطاع غزة هي قوات دولية.
الوحدة.. طوق النجاة الأخير
أمام هذا المشهد القاتم، ومشاريع التصفية التي لا تستهدف فصيلاً بعينه، بل تستهدف الكينونة الفلسطينية برمتها وتبرئة الاحتلال من جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، لم يعد الحديث عن الوحدة الوطنية مجرد شعار للاستهلاك الإعلامي، أو ترفٍ سياسي نمارسه في أوقات الرخاء، بل أصبح مسؤولية كل فرد فلسطيني مهما كان انتماؤه السياسي ومهما كانت وظيفته، وإذا لم نستدرك خطورة المشهد اليوم ونقف سداً منيعاً أمام محاولات تصفية قضيتنا، ومسح تاريخنا ونضالنا من أجل حقوقنا وحريتنا، فإننا في طريق التحول إلى كنتونات تعيش على المساعدات والمشاريع الإغاثية، وسنرى شبابنا يهجرون أمام أعيننا.
إن التحدي اليوم لا يقتصر على إزالة الركام المادي الذي يغطي غزة، بل يمتد ليشمل إزالة ركام الانقسام الذي يحجب بصيرتنا السياسية، نحتاج لتوافق وطني شامل يجمع شتاتنا الفلسطيني تحت مظلة قرار واحد، ومصير واحد، وهدف واحد، يتمثل في تقديم صوت فلسطيني موحد يفرض نفسه بقوة هذا التوافق على منابر العالم.
قد يخسر أي منا جولة انتخابات أو مقعداً في مجلس، وهذا أمر وارد في السياسة والحياة عموماً؛ لكن إذا استمر هذا التشرذم، فإننا جميعاً مقبلون على خسارة ما هو أغلى وأبقى: سنفقد حقنا في الوجود، وسنخسر وطننا ومصيرنا إلى الأبد.
الوحدة اليوم ليست خياراً، بل هي خط دفاعنا الأخير.

