التعليم في السجون والمخيمات: وعيٌ يُولَد من الألم
الكاتب: د. ياسر أبوبكر
تُجسِّد التجربة الفلسطينية في التعليم داخل السجون والمخيمات واحدةً من أكثر صور التربية في القهر اكتمالًا وعمقًا في التاريخ الحديث. فهي ليست مجرّد ممارسةٍ للتعلّم في ظروفٍ صعبة، بل مشروع وعيٍ متكامل، أعاد تعريف العلاقة بين المعرفة والحرية، وبين التعليم والمقاومة. في هذه التجربة، يصبح التعلّم وسيلةً للحفاظ على الكينونة، ويغدو الفضاء المقيّد مختبرًا فلسفيًا يُنتج فيه الإنسان معنى وجوده من جديد.
أولًا: التعليم خلف القضبان -المعرفة كسلاحٍ للتحرر
داخل السجون الإسرائيلية، نشأ نموذجٌ فريد من التعليم القسري الحرّ، حيث تحوّلت الزنازين إلى جامعاتٍ مصغّرة، والمعتقلون إلى أساتذةٍ وطلابٍ في الوقت ذاته. فقد طوّر الأسرى الفلسطينيون منذ السبعينيات نظامًا تربويًا غير رسمي يضم برامج في الفلسفة والتاريخ والسياسة وعلم النفس واللغات، مستندين إلى منطقٍ بسيط مفاده أنّ القيد لا يمنع التفكير. هذه الممارسة لم تكن نشاطًا ترفيهيًا، بل عمليةً تحررية عميقة هدفت إلى تحويل السجن من أداةٍ للهيمنة إلى فضاءٍ لإعادة إنتاج الذات.
يفوق هذا النموذج المفهوم الذي طرحه باولو فريري في "التربية من أجل التحرر"، حيث يصبح التعليم فعلًا نقديًا يعيد للإنسان وعيه بذاته وبواقعه. فالأسرى لم يتعلموا بدافع الفضول المعرفي فقط، بل لأنّ التعلم كان طريقهم الوحيد للانعتاق من التشييء. لقد صاغوا من الألم منهجًا، ومن المعاناة فلسفةً تربويةً تقوم على الحوار والمراجعة والنقد الذاتي. وفي هذا المعنى، يمكن القول إنّ التعليم في السجن لم يكن “ضد القهر” فحسب، بل “بفضل القهر”، إذ ولّد الاضطرار شكلًا جديدًا من الوعي المقاوم.
ثانيًا: التعليم في المخيمات- المدرسة بوصفها ذاكرة وطنية
أما في المخيمات الفلسطينية، فقد ظهر شكلٌ آخر من التعليم الجمعي الذي حافظ على استمرارية الهوية في غياب الوطن. فالمدرسة في المخيم لم تكن مجرّد مؤسسةٍ تعليمية، بل امتدادًا للذاكرة الجماعية، ومكانًا يربط الجيل الجديد بسردية العودة. وقد استطاع اللاجئون تحويل محدودية المكان إلى فضاءٍ تربويٍّ غنيٍّ بالتفاعل الاجتماعي، حيث شارك المجتمع بأسره - من الآباء والأمهات إلى المتطوعين - في بناء منظومة تعلمٍ مقاومة.
لقد طوّرت مدارس الأونروا ومراكز التعليم الأهلي برامج تربوية تتجاوز نقل المعارف إلى ترسيخ القيم الوطنية والإنسانية. وبدلًا من أن يكون التعليم أداة اندماجٍ في واقعٍ قاسٍ، أصبح وسيلةً لحفظ الحلم بالتحرر. ومن هنا، اكتسب التعليم في المخيمات طابعًا رساليًا مزدوجًا: فهو من جهةٍ أداة للبقاء، ومن جهةٍ أخرى شكلٌ من أشكال المقاومة الثقافية في مواجهة محاولات التهميش والنسيان.
ثالثًا: من التجربة إلى النظرية - نحو تربية الوعي المقاوم
تؤكد هذه التجارب أنّ التعليم في القهر ليس حالةً استثنائية بل حقلًا معرفيًا قائمًا بذاته، يجمع بين التربية التحويلية والنفس الإنساني المقاوم. فالسجن والمخيم، على اختلاف طبيعتهما، يشتركان في جوهرٍ واحد: تحويل القهر إلى فضاءٍ للتفكير. ومن هذا المنطلق، تشكّل التجربة الفلسطينية مادةً نظريةً غنية لإعادة تعريف التعليم بوصفه مشروعًا تحرريًا لا ينفصل عن العدالة والكرامة.
يمكن قراءة هذه التجربة بوصفها نموذجًا تطبيقيًا لفلسفة التعليم النقدي، الذي يرى في المتعلم كائنًا فاعلًا يخلق المعرفة من داخل تجربته. فالمعرفة التي تُنتج في القهر ليست استجابةً للمناهج الرسمية، بل نابعة من تجربةٍ إنسانيةٍ تبحث عن المعنى. لذلك، يُمكن القول إنّ الفلسطينيين لم يُطوّروا نظامًا بديلًا للتعليم فحسب، بل أرسوا أسس فلسفةٍ تربوية جديدة، تجعل من الوعي مقاومة، ومن التعلم طريقًا للتحرر من الاستلاب.
إنّ التعليم في السجون والمخيمات ليس مجرد حكاية صمودٍ فردي، بل منظومة فكرية تبرهن أنّ الوعي لا يُسجن. ففي كل درسٍ قُدِّم خلف القضبان، وفي كل حرفٍ كُتب على جدارٍ خيمة، كان الفلسطيني يعلن أنّ العقل يمكن أن يتنفس رغم القيد. ومن هنا، تتحول التجربة الفلسطينية إلى شهادةٍ إنسانية كونية على أنّ التربية ليست حكرًا على الاستقرار، بل هي الفعل الأكثر حريةً في لحظات اللاحرية.

