الطقس
Loading...
أوقات الصلاة
الفجر 5:07 AM
الظهر 11:36 AM
العصر 2:20 PM
المغرب 4:45 PM
العشاء 6:05 PM
العملات
Loading...
ترددات البث
جنوب فلسطين FM 96.8
أريحا و الأغوار FM 96.8
وسط فلسطين FM 98.3
جنين و الخليل FM 98.3
شمال فلسطين FM 96.4

ما العمل فلسطينيًا في زمن انسداد الأفق؟

الكاتب: معمر عرابي

يعيش الفلسطينيون اليوم لحظة انسداد تاريخي غير مسبوقة: احتلال يتوسع بلا كوابح، حرب إبادة مفتوحة في غزة، تفكك جغرافي ممنهج، وأزمة تمثيل وشرعية عميقة تضرب جوهر النظام السياسي الفلسطيني. في مثل هذا الواقع، لم يعد سؤال ما العمل؟ نقاشًا فكريًا أو ترفًا نخبويًا، بل سؤالًا وجوديًا يتعلق بمصير القضية نفسها وبمعنى الفعل السياسي.

هو السؤال ذاته الذي طرحه فلاديمير لينين في كتابه «ما العمل؟» حين واجه واقعًا من القمع والانسداد، وأدرك أن الغضب الشعبي—مهما كان مشروعًا—قد يتحول إلى طاقة مهدورة إن لم يُترجم إلى وعي منظم وتنظيم قادر على الاشتباك مع جذور الأزمة، لا مع نتائجها فقط.

الانسداد الفلسطيني اليوم ليس سياسيًا فحسب، بل ذهني أيضًا. الأخطر أنه يُقدَّم، عن قصد أو تواطؤ، بوصفه “واقعًا طبيعيًا” يجب التكيف معه. هنا تبدأ الهزيمة الحقيقية: حين يُعاد تعريف السياسة باعتبارها إدارة للخسارة لا أداة لتغيير المعادلة، وحين يُقنع الناس بأن أقصى الممكن هو تقليل الأضرار، لا مواجهة أسبابها.

هذا التحول من مشروع تحرري إلى منطق إدارة الخسارة لم يأتِ صدفة. إنه نتاج مسار طويل من تطبيع الواقع القائم، وخفض سقف التوقعات، وتقديس ما يُسمى “الواقعية السياسية”. لينين حذّر من هذا المنزلق مبكرًا، حين اعتبر أن الاكتفاء بالفعل العفوي، دون أفق سياسي وتنظيم جامع، يترك الجماهير في دائرة انفجار–قمع–صمت، بلا أي تراكم يغيّر ميزان القوى.

في فلسطين، لا يعاني الشعب من نقص في التضحيات ولا من غياب الاستعداد للبذل، بل من العجز عن تحويل هذا الرصيد الهائل من الألم والصمود إلى قوة سياسية منظمة. المشكلة ليست في كثافة الفعل، بل في تفككه؛ ليست في صدق الغضب، بل في بقائه بلا مشروع جامع يحميه من الاستهلاك والتبديد.

وهنا يصبح استحضار لينين ضرورة سياسية لا مرجعية أيديولوجية. فجوهر أطروحته كان واضحًا: الوعي لا يولد تلقائيًا من المعاناة. المعاناة قد تُنتج الغضب، لكنها لا تُنتج بالضرورة وعيًا قادرًا على التغيير. الوعي يُبنى عبر التنظيم، والمعرفة، والانحياز الواضح، ومن دون ذلك يتحول الصمود إلى تحمّل، والمقاومة إلى طقس متكرر بلا أفق.

وفي هذا السياق، لا بد من قول ما يتم تجنّبه عادة: السلطة ليست هدفًا وطنيًا بحد ذاتها. حين تتحول السلطة إلى غاية، تُفرغ السياسة من مضمونها التحرري، ويُستبدل مشروع الحرية بمنطق الإدارة والبقاء. أي سلطة لا تُقاس بمدى خدمتها للتحرر، تتحول تلقائيًا إلى جزء من مشكلة الانسداد، لا إلى أداة لحلّه.

كما أن خطاب “الواقعية” الذي يختزل السياسة في تحسين شروط الحياة تحت الاحتلال، أو في الحفاظ على “الاستقرار”، لم يعد مجرد خيار تكتيكي، بل بات أيديولوجيا لإدارة الخسارة. خطاب يبدو عقلانيًا في شكله، لكنه في جوهره يطبّع مع القهر، ويحوّل الحد الأدنى إلى سقف نهائي، ويستبدل سؤال التحرر بسؤال الإدارة. هذا بالضبط ما سماه لينين “الاقتصادوية”: سياسة بلا صراع، وواقع بلا أفق.

ما العمل إذًا؟
ليس المطلوب انتظار معجزة، ولا اختراع شعارات جديدة، بل كسر منطق إدارة الخسارة. إعادة بناء الفعل من القاعدة، لا من فوق؛ مراجعة داخلية صريحة تعيد الاعتبار للسياسة كأداة تغيير لا كجهاز إدارة؛ وبناء وعي جمعي يرفض اختزال الصراع في تحسين شروط القهر. كما أن معركة الوعي والسردية لم تعد هامشية، بل باتت ساحة مركزية: إما توصيف ما يجري بوصفه استعمارًا يجب إنهاؤه، أو القبول بتسويقه كواقع دائم يجب التكيف معه.

استحضار لينين اليوم لا يعني استعادة الماضي، بل استخدام منطقه في الحاضر: لا تحرر بلا وعي، ولا وعي بلا تنظيم، ولا تنظيم بلا مشروع يتجاوز إدارة الهزيمة وعبادة السلطة. في فلسطين، حيث يبدو الأفق مسدودًا، يصبح سؤال ما العمل؟ فعل مقاومة بحد ذاته، لأنه يرفض التسليم، ويعيد فتح السياسة على احتمالاتها.

القمع لا يهزم الشعوب، ما يهزمها هو فقدان البوصلة. وفي فلسطين، البوصلة واضحة: الحرية أولًا، وكل ما لا يقود إليها ليس إلا شكلًا آخر من إدارة الخسارة.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر شبكة راية الإعلامية.
Loading...