إسرائيل تنكر مسؤوليتها المركزية عن ضياع جثث أسراها في غزة

2025-10-17 09:33:11

يتّضح من أقوال الصليب الأحمر الدولي ومسؤولين أميركيين أن القصف الإسرائيلي الشديد والعشوائي في قطاع غزّة خلال الحرب، طوال السنتين الماضيتين، هو أحد الأسباب، إن لم يكن السبب الأساسي، لفقدان جثث أسرى إسرائيليين في القطاع، والذين تقول حركة حماس إنها لم تتمكّن من العثور عليهم.

اللجنة الدولية للصليب الأحمر وصفت عملية البحث عن هذه الجثث بأنها "تحدٍّ هائل"، بسبب الدمار الرهيب في القطاع من جرّاء القصف الإسرائيلي، وحتى أن "هذا تحدٍّ أكبر من إطلاق سراح الأسرى الأحياء"، وأن الأمر ربما يستغرق أيامًا أو أسابيع، وأن هناك احتمالًا ألا يتم العثور عليهم أبدًا.

كذلك قال مستشارون للرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لصحافيين إن حماس تعتزم الالتزام بتعهدها بإعادة جميع جثث الأسرى الإسرائيليين، رغم إعلان حماس عن صعوبة ذلك. وقال أحد المستشارين إنه "ما زلنا نسمع منهم عزمهم على الالتزام بالاتفاق. هم يريدون إتمامه فيما يخص هذا الأمر". وشدّد المستشارون الأميركيون على أن عملية انتشال الجثث في غزّة مهمّة صعبة للغاية، نظرًا لتدمير القطاع بالكامل، ما يستلزم استخدام معدات متخصصة.

رغم هذه المصاعب وتسبّبها بها، إلا أن إسرائيل ادّعت أن عدم إعادة جميع جثث أسراها هو خرق لاتفاق وقف إطلاق النار من جانب حماس، وهدّدت باستئناف الحرب على غزّة، وأغلقت معبر رفح أمام دخول المساعدات الإنسانية. لكن، خلال الحرب، تعالت تحذيرات متكررة في إسرائيل من أن القصف الشديد في القطاع من شأنه أن يؤدي إلى مقتل أسرى إسرائيليين أحياء وضياع جثث أسرى أموات، لكن الحكومة والجيش في إسرائيل لم يأبها أبدًا بهذه التحذيرات.

في أعقاب بدء سريان اتفاق وقف إطلاق النار في القطاع، نهاية الأسبوع، إسرائيل هي التي تنتهك الاتفاق وبشكل متعمد، بإطلاق النار على مواطنين غزّيين ومقتل عدد منهم، بادّعاء اقترابهم من "الخط الأصفر" الذي انسحب الجيش الإسرائيلي إليه بموجب الاتفاق. إلا أن هذا الادّعاء الإسرائيلي سخيف، خصوصا وأن هذا "الخط الأصفر" هو خط افتراضي، ولا توجد علامات على الأرض تشير إليه، ولا توجد رقابة دولية له أو لإنفاذه.

لا يزال قطاع غزّة محاصرًا ومعزولًا عن العالم، وإسرائيل تتعامل مع منظمات الإغاثة فيه، وبضمنها وكالات الأمم المتحدة، على أنها عدو وليست منظمات إنسانية. ويشاهد العالم ما يجري في القطاع من خلال عدسات كاميرات وتقارير الصحافيين الغزّيين، الذين يكشفون عما يحدث في القطاع. لكن إسرائيل قتلت 255 صحافيًا منهم على الأقل، وفقًا لآخر حصيلة.

في هذه الأثناء، تجري الحكومة الإسرائيلية مداولات حول سياستها بمنع صحافيين أجانب من دخول القطاع، بعد تزايد مطالب مؤسسات صحافية دولية بدخول مراسليها إلى القطاع بعد وقف إطلاق النار. وحسب صحيفة "هآرتس"، فإن الاعتقاد في الجيش الإسرائيلي هو أنه بعد دخول "القوات الدولية" إلى القطاع وفتح معبر رفح، سيكون من الصعب على إسرائيل استمرار منع دخول صحافيين أجانب ومنع نقل تقاريرهم إلى خارج القطاع.

واضح لإسرائيل أن التقارير والمشاهد في القطاع التي ستنشرها وتبثّها وسائل إعلام أجنبية ستصعّد الانتقادات الدولية لها بشكل كبير، بسبب الدمار الرهيب ومعاناة الغزّيين التي تفوق الوصف. ولن يكون بإمكان إسرائيل أن تُخفي هذه المعاناة وهذا الدمار.

خلال هذه المداولات، تمّت التوصية بأن يستعرض متحدّثون في وحدة الناطق العسكري الإسرائيلي "موادًا تعزّز موقف إسرائيل حيال حجم الدمار وعدد القتلى الغزّيين"، مثل "حجم أنفاق حماس، كي يتفهم الصحافيون الأجانب سبب الدمار في جباليا وتل السلطان اللذين دُمّرا بالكامل"، حسب الصحيفة. لكن مدينة رفح مُحيت بالكامل عن الوجود، وكذلك مناطق أخرى في القطاع. وخلال الحرب، سمحت إسرائيل لصحافيين أجانب بالدخول إلى القطاع، لكن هذا جرى بمرافقة مندوبين عن وحدة الناطق العسكري، الذين منعوا تغطية صحافية حرّة.

"قوات دولية" في القطاع: ماذا ستفعل؟

ليس واضحًا بعد إذا كانت خطة ترامب ستُطبّق أم لا. فهذه الخطة تجاهلت هيئات الحكم الفلسطينية، سواء كانت ممثَّلة بحماس أو بالسلطة الفلسطينية. وتنصّ هذه الخطة على نزع سلاح حماس ونزع السلاح في قطاع غزّة كله. لكن حماس أعلنت أنها ترفض إلقاء سلاحها، وليس واضحًا كيف سيصبح القطاع منزوع السلاح. والأهم، من سينفّذ نزع السلاح؟

نزع السلاح في قطاع غزّة هو شرط إسرائيلي بالأساس، لكن الواضح هو أنه يصعب على إسرائيل، أو أي جهة أخرى، تنفيذه، مثلما هو حاصل في لبنان. ولا شك أن إسرائيل تُدرك ذلك. لكن إسرائيل تعتبر أن هذا الشرط يسمح لها بمواصلة تنفيذ غارات وقصف في القطاع، والادّعاء أنها تستهدف مخزن أسلحة أو شخصًا مسلّحًا، مثلما لا تزال تفعل في لبنان، بعد سنة من اتفاق وقف إطلاق النار هناك.

كذلك، ليس واضحًا كيف ستعمل "القوات الدولية"، وبضمنها عناصر من دول عربية وإسلامية، في القطاع. فقوات "يونيفيل" التابعة للأمم المتحدة في لبنان لم تنجح في منع هجمات إسرائيلية، ولا هجمات ضد إسرائيل. فكيف ستنجح "قوات دولية" كهذه في القطاع؟ وهل ستوافق دول عربية وإسلامية على إرسال قوات إلى القطاع من دون مشاركة قوات فلسطينية؟ فإسرائيل ترفض دخول قوات من أجهزة أمن السلطة الفلسطينية إلى القطاع.

السؤال المركزي الآن هو: هل يحقّ للدول العربية والإسلامية أن ترسل قوات إلى قطاع غزّة الآن، بعدما كانت طوال السنتين "تتفرّج" على الإبادة الجماعية الحاصلة؟ فهذه الدول لم تتمكّن من إدخال كسرة خبز إلى القطاع عندما أوقفت إسرائيل دخول مساعدات إنسانية إليه، في موازاة استئنافها الحرب، في آذار/ مارس الماضي.

لقد ندّدت هذه الدول باستمرار حرب الإبادة، لكنها لم تفعل أي شيء من أجل وقفها، وحتى إنه لم تُنظم فيها مظاهرات ضد الحرب، كتلك التي كانت في الدول الغربية، وإنما استمرت علاقاتها الأمنية والاقتصادية القوية مع إسرائيل. على أي أساس ستكون ضمن "القوات الدولية" في القطاع؟ وهل هي قادرة أصلًا على حماية الغزّيين من شراسة إسرائيل؟

لكن، إذا كانت هناك إرادة ونيّة حسنة لدى الدول العربية والإسلامية المرشّحة للمشاركة في "القوات الدولية"، فإن باستطاعتها أن تُحسّن الوضع في القطاع. سيتعيّن عليها أن توقف الحرب بشكل كامل، بحيث لا تُطلق إسرائيل أي رصاصة على القطاع، وأن ينسحب جيشها بشكل كامل من القطاع، ورفع الحصار عنه بالكامل. يجب أن يكون عمل القوات الدولية مع الهيئات الفلسطينية، أي مع القيادة السياسية في القطاع ومع السلطة الفلسطينية أيضًا، على أمل أن يُشكّل ذلك خطوة نحو وحدة فلسطينية مستقبلية. إذ إن "القوات الدولية" يجب ألا تبقى في القطاع إلى الأبد.

لجنة تحقيق رسمية

إسرائيل لن تتغيّر، لا سياسيًا ولا عسكريًا، وليس مهمًا من يحكمها، فسياساتها تستند إلى العقيدة الصهيونية، التي باتت المعارضة في إسرائيل تؤكّد عليها أكثر من معسكر اليمين المتطرّف بقيادة نتنياهو. والعقيدة الصهيونية لا ترى الفلسطينيين، وتتعامل معهم كأنهم "شفّافون"، غير مرئيين.

جهات واسعة في المعارضة الإسرائيلية تطالب بتشكيل لجنة تحقيق رسمية في أحداث 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وفي مجرى الحرب على غزّة. وقد أمهلت المحكمة العليا الحكومة، هذا الأسبوع، شهرًا كي تقدّم ردها على تشكيل لجنة كهذه. لكن نتنياهو يعارض لجنة كهذه.

سواء وافق نتنياهو على تشكيل لجنة تحقيق رسمية أو فُرض عليه تشكيلها من المحكمة العليا، فإن عمل اللجنة لن يتأثّر بذلك، لأنها ستركّز على الإخفاق الأمني الذي أدّى إلى هجوم 7 أكتوبر، ولن تتطرّق باهتمام إلى ارتكاب الجيش الإسرائيلي الإبادة بحق الغزّيين وتدمير القطاع.

في أعقاب مجزرة صبرا وشاتيلا، في العام 1982، تشكّلت لجنة تحقيق رسمية في إسرائيل، وكان بين توصياتها عدم تولّي وزير الأمن في حينه، أريئيل شارون، منصبًا أمنيًا. لكن بعد عشرين عامًا، عاد وانتُخب شارون رئيسًا للحكومة. وجاءت توصية اللجنة بعد احتجاجات واسعة في إسرائيل طالبت بوقف الحرب على لبنان، وبضمنها مظاهرة في تل أبيب بمشاركة 400 ألف شخص.

لم تُنظم خلال الحرب على غزّة مظاهرة كتلك التي نُظّمت عام 1982. والاحتجاجات في إسرائيل خلال الحرب على غزّة طالبت بالأساس بإعادة الأسرى الإسرائيليين، وليس بوقف الحرب. بل إن الاستطلاعات أظهرت تأييد الإسرائيليين الواسع للحرب، وحتى لطرد الغزّيين من القطاع. لذلك، الحرب على غزّة حظيت بإجماع إسرائيلي واسع، ويتوقّع أن تكون توصيات لجنة تحقيق رسمية بما يتلاءم مع هذا الإجماع، خصوصا وأن المحكمة العليا الإسرائيلية شكّلت دائمًا خَتْمًا مطاطيًا لممارسات الجيش الإسرائيلي والاحتلال.