نظرية مالتوس في خدمة الصهيونية ودولتها العميقة

2025-10-29 09:56:19

تشكل نظرية مالتوس نواةً لفكرةٍ كبرى تسكن الوعي الغربي منذ قرون، الخوف من الكثرة. ففي أواخر القرن الثامن عشر، حين كانت أوروبا تخرج من رحم الثورة الصناعية وتتهيّأ لابتلاع العالم، ظهر توماس مالتوس بخطابه البارد، يخبر البشرية أن الزيادة السكانية تتجاوز قدرة الأرض على الإطعام، وأن الطبيعة، في عدلها القاسي، ستعيد التوازن بالمجاعات والأوبئة والحروب. بدا الأمر يومها وكأنه نبوءة علمية، لكنه كان في جوهره تبريرًا فلسفيًا للهيمنة، إذ لا شيء يخدم السلطة أكثر من تحويل الفقر إلى “قانون طبيعي”.

فكر مالتوس يرى الإنسان عنصرًا إحصائيًا لا ككائنٍ حر، ويحوّل الرحمة إلى خطأٍ أخلاقي لأنها تعطل “انتقاء الأقوياء”. كان يخاطب الملوك ورجال الكنيسة والنظام الرأسمالي الصاعد بلغةٍ واحدة، لا تُنفقوا على الفقراء، فإعالتهم إثمٌ ضد الطبيعة، ومنذ تلك اللحظة تحوّل الاقتصاد إلى لاهوتٍ جديد يتساوق مع الكثير من النصوص التلمودية، وصار التفاوت بين البشر قدرًا بيولوجيًا لا ظلمًا اجتماعيًا.

مع مرور الزمن، تسللت الفكرة المالتوسية إلى قلب المؤسسات الدولية، لم تعد مجرد نظرية تُدرَّس، بل منهجًا غير معلنٍ لتوزيع الخيرات والمصائر، فحين اكتشفت الإمبراطوريات الحديثة أن الحروب المباشرة مكلفة، بدأت تبحث عن وسائل أكثر نعومةً للضبط، فوجدت ضالّتها في السياسات السكانية التي تُقدَّم تحت شعارات التنمية والحداثة وحقوق المرأة.

عطفا على ما سبق فقد بدا الأمر وكأنه دعوة للوعي والتنظيم، لكنه في جوهره كان هندسةً صامتةً لتوازن القوى، فالدولة العميقة التي لا تُرى إلا بآثارها، أدركت أن التحكم بالعدد البشري أضمن من التحكم بالجيوش، وأن السيطرة على خصوبة الشعوب توازي في أثرها امتلاك السلاح النووي.

بحدود منتصف القرن العشرين، حين بدأت الأمم الفقيرة تتكاثر بوتيرةٍ أسرع، ارتفع صوتٌ جديد في المراكز البحثية الكبرى، الخطر ليس في الحروب بل في الولادات عندها، تسللت المالتوسية إلى لغة الأمم المتحدة وصندوق النقد والبنك الدولي، وصارت الزيادة السكانية تُعامَل ككارثةٍ بيئية، وبدأت البرامج تُفرض على الشعوب الأكثر هشاشةً تحت غطاء القروض والمساعدات، حتى صار الجوع يُعالج بتقليص عدد الجياع لا بإطعامهم، كانت تلك المالتوسية في ثوبها العصري، تُنفّذ سياسات الدولة العميقة التي لا تحتاج إلى مستعمرين جدد، بل إلى عقولٍ مقتنعةٍ بأن الفناء هو الحل.

لقد رأى مالتوس في المجاعات والأمراض والحروب آليات طبيعية لإعادة التوازن السكاني، لكن الدولة العميقة حولت هذا المفهوم إلى أداة سياسية باردة، لم تعد الكوارث مجرد فعل الطبيعة، بل صارت وسيلة لإعادة ترتيب الأعداد البشرية، لضبط الكثافة السكانية بما يخدم مصالح السلطة. الحروب تُدار أحيانًا لتخفيف الضغط السكاني أو لفتح أسواق جديدة، والأوبئة تصبح فرصة لإعادة تشكيل المجتمع والسيطرة على الموارد، في هذا السياق، تتقمص الدولة العميقة دور الطبيعة نفسها، فتدير التوازن بذكاء اصطناعي وقرارات خفية، فتصبح الحياة نفسها محكومة بمعادلة القوة والسيطرة أكثر من كونها نتيجة للنمو الطبيعي.

لقد امتدّت الرؤية المالتوسية لتشمل اليوم أدوات وتقنيات قد تبدو خيالية، لكنها تتفاعل مع فكرة ضبط السكان بشكل مباشر أو غير مباشر. فالأسلحة الحديثة، سواء كانت نووية متخصصة كـ القنابل النيوترونية التي تقلل الضرر المادي على البنى بينما ترفع الوفيات البشرية، أو الأسلحة البيولوجية التي يمكنها استهداف البشر مع ترك الهياكل قائمة، تمثل امتدادًا وظيفيًا لمفهوم ضبط الكثافة السكانية الذي كان مالتوس يراه "توازنًا طبيعيًا". حتى الأبحاث المثيرة للجدل في التحكم بالطقس أو الطاقة، مثل ما يُحكى عن HAARP، رغم أن الأدلة العلمية على استخدامها في التحكم المباشر بالبشر ضعيفة، إلا أن مجرد ارتباطها بالنظريات العسكرية أثار تصوّرات حول كيف يمكن تحويل الطبيعة نفسها إلى أداة سياسية.

وفي هذا السياق، يصبح من الواضح أن الدولة العميقة لا تعتمد فقط على القوانين الاقتصادية أو السياسات الصحية لتقليص التأثير السكاني؛ بل تستخدم العلوم والتقنيات الحديثة لتؤدي دور الطبيعة لكن بشكل محسوب، فتدير التوازن بين البشر والموارد، هذه الإمكانيات تطرح أسئلة وجودية وأخلاقية عميقة، كيف يمكن لمجتمعٍ عاقل أن يقبل بأدوات قادرة على تحويل الحياة إلى ارقام، أو التحكم بالموت والبقاء على نحو اختياري؟ هنا تتحوّل المالتوسية من فلسفة اقتصادية إلى منظومة تفكيرٍ عملي، حيث لا يقتصر ضبط السكان على المجاعات أو الأمراض الطبيعية، بل يُصبح مسارًا يمكن للبشر توجيهه من خلال القوة التكنولوجية والسياسية.

ربما لم يكن توماس مالتوس عضوًا رسميًا فيما يُسمّى اليوم بالدولة العميقة، ولم تكلفه باي مهمة سرية أو سياسية مباشرة، مالتوس كان اقتصاديًا وكاهنًا وفيلسوفًا اجتماعيًا، قدم تحليلات عن النمو السكاني والفقر بطريقة أكاديمية، لكن أفكاره كانت تخدم مصالح النخبة الحاكمة والطبقات المهيمنة في عصره، إذ قدّمت شرعية فكرية لسياسات التحكم بالموارد ورفض المساعدات للفقراء، بحجة أن الفقر والكارثة الطبيعية هما “نتيجة طبيعية” للتوازن السكاني وهكذا أصبح مالتوس أحد المفكرين الذين صاغوا الأدوات الفكرية التي يمكن أن تُوظف لاحقًا من قبل الدولة العميقة لإدارة السكان والسيطرة على الموارد.

وهكذا تتشابك فكرة السيطرة المالتوسية مع أدوات الدولة العميقة، فتصبح الحروب والأوبئة من اجل السيطرة على الموارد جزءًا من منظومة واحدة لإدارة الحياة نفسها الإنسان، في هذا الإطار، ليس مجرد ضحية طبيعية، بل هدفٌ لمعادلات القوة التي تخطّها قلة صغيرة خلف ستار من السرية، ومع كل اكتشاف علمي جديد أو تقنية متطورة، يُعاد طرح السؤال نفسه، هل تُستغل المعرفة لإغناء البشرية أم لإخضاعها؟ وهنا يتجلى التحدي الحقيقي للوعي الجمعي، الذي عليه أن يوازن بين الإمكانات المذهلة للعلم والتقنية وبين المخاطر التي يمكن أن تحوّل الإنسان إلى مجرد رقم في معادلة الحياة والموت.

اذا نظرنا الى جوهر فكرة التحكم بالواقع، نجد أن أخطر تطبيقاتها ظهر في المشروع الصهيوني نفسه، حيث يتقاطع مع  مالتوس في نظرته إلى الكثرة البشرية كتهديد يجب ضبطه أو إقصاؤه، فالنصوص التلمودية التي شكّلت الوعي العقائدي للصهيونية السياسية، لم تتردد في إباحة قتل الأغيار وتبرير معاملتهم ككائنات أدنى مرتبة، واعتبارهم قرابين في سبيل نقاء الشعب المختارإذ ان هذا البعد الميتافيزيقي يغلف المشروع الصهيوني بغطاء ديني يشرعن الإبادة ويحوّلها إلى واجب مقدس، تمامًا كما حوّل مالتوس الفائض البشري إلى معادلة رياضية يجب تقليصها لصالح استمرارية النظام، وهكذا، يصبح القتل أداة “عقلانية في توازن القوى، ويغدو استئصال الوجود الفلسطيني والعربي ممارسة سياسية تنسجم مع منطق السيطرة لا مع منطق الإنسانية.

ما أخطر أن تتحول البشرية إلى معادلةٍ رياضية، معدل مواليد مقابل معدل إنتاج، استهلاك مقابل طاقة، حياة مقابل ربح، في هذه المعادلة لا مكان للإنسان ككائنٍ يحمل معنى، بل كرقمٍ في جدولٍ عالمي تُديره نخبة مالية تعرف جيدًا أن الثروة لا تكمن في الإنتاج بل في الندرة. لذلك، كلما خاف الناس من نقص الموارد، ازداد استسلامهم للنظام. وهكذا وُلد من رحم المالتوسية شكلٌ جديد من العبودية الناعمة، أن يُقنعوك بأن نجاتك مرهونة بخضوعك.

وفي النهاية، لا يمكن قراءة الدولة العميقة أو نظرية مالتوس أو المشروع الصهيوني بمعزل عن الجوهر المشترك، الخوف من الإنسان عندما يخرج عن المعادلة، فحين تتحول القيم إلى أدوات للهيمنة، يصبح الإنسان مجرّد متغيّر يمكن شطبه من الحساب متى اقتضت مصلحة الأقوياء، تلك هي المأساة الكبرى للحضارة الحديثة؛ أنها استبدلت الضمير بالمعادلة، والرحمة بالمنفعة، والحقيقة بالتقنية ومع ذلك، يبقى في عمق الوعي الإنساني صوتٌ يرفض أن يكون رقماً في مشروع السيطرة، ويقاوم من أجل أن يستعيد مكانه كغاية لا كوسيلة، وكمعنى لا كأداة، فالمستقبل، مهما غاب في ظلال السلطة، لا يُصنع في غرف مغلقة، بل في ضمير الإنسان حين يدرك أنه ليس فائضًا على الأرض، بل سبب وجودها.