الأستقرار المؤجل في غزة
تُظهر مسودة القرار الأميركي المطروحة للتداول أمام اعضاء مجلس الأمن اصراراً جديدا على أشكال الوصاية الأستعمارية على شعبنا الفلسطيني وحماية دولة الأحتلال . إذ يتم تقديمها تحت شعار "إدارة انتقالية دولية" و"إعادة إعمار إنساني"، لكنها في جوهرها محاولة لإعادة إنتاج السيطرة السياسية والأمنية على غزة عبر قنوات دولية وإقليمية تُقصينا نحن الفلسطينيين عن حقنا بتقرير المصير واقامة الدولة المتواصلة وذات السيادة والمستقلة .
وبين "خطة ترامب" القديمة وهذه المسودة الجديدة ، يتضح أن واشنطن لم تتخلى عن مشروعها لإدارة الصراع بدل حله ، وأن ما يُعرض على غزة ليس سلاماً ، بل ترتيبا مؤقتا لإدامة الهيمنة وفرض سياسات التقسيم من جديد ووقائع الأحتلال بوجه آخر .
تتضمّن المسودة الأميركية توجهاً نحو إعادة صياغة المشهد في غزة من خلال إدارة انتقالية دولية عبر مجلس السلام وقوة الإنفاذ لا قوة السلام ، تتولى الإشراف على وقف النار وتطبيق قرارات المجلس المذكور برئاسة ترامب وتخطيط اعادة الإعمار ، دون التطرق الحاسم إلى مسألة نزع سلاح المقاومة أو إنهاء الأحتلال . هذا الطرح ، الذي يلقى دعماً حذرا من بعض العواصم العربية ، يسعى عمليا إلى تقييد دور الفصائل الفلسطينية في غزة وإعادة هندسة المشهد الداخلي تحت مظلة "الأستقرار الإقليمي"، مع فتح الباب أمام ترتيبات تطبيع جديدة تُقدم كثمار للسلام ، بينما تُفرغ القضية من مضمونها الوطني التحرري والسيادي .
غير أن هذا المسار ، كما تشير ورقة معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي التي يتم تداولها ، يصطدم بتباينات جوهرية داخل الإقليم ، فالسعودية والإمارات تشترطان إصلاح السلطة الفلسطينية وتقدما سياسيا نحو حل الدولتين قبل أي مشاركة ، بينما قطر وتركيا تتحركان وفق رؤية مختلفة تدعم بقاء حماس كفاعل رئيسي في غزة ، الأمر الذي قد يبدو مقبولا الى حدود ما من جانب الإدارة الامريكية ، وتعتبران الإعمار مدخلا لتعزيز النفوذ
الإقليمي لا لتقييد دور حركة حماس .
أما الموقف المصري، فيتّسم بالتوازن والحذر ، إذ تنظر القاهرة إلى ملف حماس من زاوية أمنية وسياسية معقدة، فهي تدعم ترتيبات تدريجية تضمن ضبط السلاح وتوحيد المرجعية الفلسطينية تحت اطار منظمة التحرير ومتطلباتها من الإصلاح ، مع استمرار دور المخابرات المصرية في المتابعة والرقابة على تنفيذ تلك الترتيبات ، حفاظا على استقرار الحدود ودور مصر الإقليمي كوسيط رئيسي في إدارة التهدئة ومتابعة جوانب من الملف الفلسطيني .
تبدو النتيجة حتى الآن معادلة معقدة بلا توازن ثابت ، واشنطن من جهتها تحاول فرض وصايتها من بوابة الإعمار وقوة الانفاذ ، وتل أبيب ترفض أي تسوية تعيد غزة إلى السلطة الفلسطينية التي تحاول تقويض دورها بالضفة ومحاولات فرض معايير الإصلاح الأمريكية عليها بما ويتوائم مع رؤية الدولة المنقوصة ، فيما تتريث العواصم الخليجية بين ضغوط الحلف الأميركي ومخاوف الظهور كشريك في مشروع يكرس الوصاية على الفلسطينيين . وهكذا ، يبقى السيناريو الأكثر ترجيحاً في المدى المنظور للاسف هو استمرار الهشاشة السياسية والإنسانية في القطاع ، بانتظار تبلور تفاهم إقليمي–دولي أوسع يعيد الاعتبار للمسار الوطني الفلسطيني ، لا لمعادلات النفوذ والمصالح .
إنّ مواجهة هذا المسار تتطلب ارادة سياسية ورؤية فلسطينية موحدة ومستقلة ترفض تحويل الإعمار إلى أداة ابتزاز سياسي أو وصاية دولية أستعمارية بل إنهاء الأحتلال لا إدارة نتائجه ، وتعيد تعريف الأولوية الوطنية في سياقها الصحيح سنداً لمفهوم الولاية السياسية والجغرافية لممثل الشعب لفلسطيني منظمة التحرير رغم الحاجة الملحة التي تحتاجها الى الاصلاح والأستنهاض بقرار وطني خالص ، واجراء الانتخابات العامة . فالأستقرار الحقيقي لا يُستورد بقرارات من الخارج ولا يُفرض ، بل يُبنى بإرادة سياسية وشعبية حرة تعيد صياغة معادلة القوة والمعنى في الصراع .