"ما بعد الأمن القومي الأميركي 2025: تحولات القوة ،،، والطاقة كفرصة فلسطينية لإعادة التفكير خارج المألوف"
حين كتبتُ مقال "ما بعد الأمن القومي الأميركي 2025: تغيير في قواعد القوة واستحقاق استراتيجي للمنطقة وفلسطين" كان الهدف أن أقرأ ملامح التحول في الذهنية الأميركية واتساع الهامش العربي - بما فيه الفلسطيني - في لحظة إعادة تشكيل خرائط النفوذ. المقال فتح باباً مهمًّا للنقاش، لكنه في الوقت ذاته أثار موجة من الأسئلة الجادة، كان أبرزها مداخلة الصديق عبدالله السويطي الذي سأل بوعي ومسؤولية عن ممكنات الربط بين فلسطين والطاقة والتجارة الإقليمية، وعن مدى واقعية هذا الطرح في ظل الموانع السياسية والوقائع الصلبة على الأرض.
وقد جاءت هذه السطور ردًا وتوسعاً لا تفنيدًا، ومحاولة لا لعرض "وصفة جاهزة"، بل لفتح نافذة تفكير مختلفة تخرجنا من أسر السؤال الموروث: كيف نقاوم؟ إلى سؤال أكثر عمقًا وإيلاماً:
كيف نُنتج شروطًا تجعل المقاومة ممكنة، وتجعل السياسة ذات وزن وقدرة على الفعل؟
لسنا بصدد معجزة ولا نقترح انقلاباً على قواعد الجغرافيا والاحتلال، بل نبحث عن عقل جديد يشتبك مع الواقع بحثًا عن مخارج مبتكرة لا تكرارًا لطرق جرّبناها حتى الإنهاك.
أسئلة السويطي ،،، مدخل ضروري لإعادة التفكير :
جاءت تساؤلات عبدالله في مكانها الطبيعي:
ما الأدوات المتاحة فعلًا؟
هل البيئة الإقليمية تسمح بتحرك فلسطيني خارج السقف الإسرائيلي؟
ماذا عن موقف تل أبيب؟ وكيف يمكن الالتفاف على الفيتو السياسي؟
أين موقع القوى الكبرى - الصين، روسيا، تركيا، إيران، أوروبا - من هذا المسار؟
هذه ليست اعتراضات، بل أسئلة تحريضية تنتزع الفكرة من التنظير إلى الاختبار.
فأي رؤية لا تواجه هذه الأسئلة تبقى مجرد طرح جميل معلق في الهواء.
الفكرة ليست حلاً جاهزاً ،،، بل دعوة للفعل والتفكير معًا .
أكتب هنا بوضوح:
لا أزعم أن بيدي خارطة طريق مكتملة، ولا أن الطاقة ستصنع التحرير وحدها.
لكنني أؤمن أن استمرار التفكير بالطريقة ذاتها سيُبقينا في المكان ذاته:
متلقّين لا صانعين، ردّ فعل لا فعلا، شعباً محكومًا بالضرورة بدل أن يكون منتجاً لها.
ما أقدمه محاولة لاستفزاز العقول، لفتح الباب أمام خبرات أوسع، ليكمل آخرون ما لا أستطيع أن أبلغه وحدي.
الفكرة هنا شرارة وليست نارًا مكتملة - تحتاج نفخاً لا إخمادًا.
لماذا الطاقة والتجارة بالذات؟
لأنهما عنق الزجاجة الذي يمسك به الاحتلال منطقة الأعصاب الفلسطينية:
الكهرباء، الغاز، المعابر، الوقود، الموانئ - كلها أدوات سيادة حقيقية، وليست تفصيلًا فنياً.
إذا تحولت الطاقة من مورد استعمار إلى مورد نفوذ، ننتقل تدريجيًا من اقتصاد الرواتب والمنح إلى اقتصاد القدرة على التفاوض.
ومن التبعية إلى الندية - ببطء نعم، لكن بثبات.
الربط الكهربائي العربي عبر الأردن، مشروع غاز غزة، الممرات التجارية، الانفتاح على شبكات الحزام والطريق ..
كلها ليست اختراعات جديدة بل ملفات موجودة تنتظر عقلًا يعيد ترتيبها بدل انتظار حلول سماوية.
التحرك ممكن،،، حين نفكر خارج البنية التقليدية :
السياسة لا تُصنع في الفراغ ، تُصنع في المساحات الرمادية بين الممكن والممنوع.
اليوم في المنطقة:
أوروبا تبحث عن أمن طاقي بعد صدمة روسيا.
والخليج يستثمر في الطاقة النظيفة ويبحث عن منافذ نفوذ.
وتركيا تخلق هندسة جديدة للبحر والموانئ.
أما واشنطن فتعيد تعريف أولوياتها باتجاه تقاسم الكلفة لا تحملها .
والصين تدخل من بوابة الاقتصاد لا الأيديولوجيا.
هذه ليست فرصة مثالية - لكنها نافذة.
ومن لا يقفز في اللحظة المناسبة منها يفقد الجدار للأبد .
ماذا عن إسرائيل؟
سنكون واقعيين: تل أبيب ستعرقل، وربما تقاتل اقتصادياً بقدر ما تقاتل أمنياً.
لكنها - بمنطق القوة الباردة - براغماتية حين ترتفع كلفة المنع.
إذا دخلت قوى متعددة في مشروع فلسطيني إقليمي، يصبح المنع مكلفًا سياسياً ودبلوماسياً واقتصاديًا.
المنطق التقليدي:
"إسرائيل ستمنع ونحن نتوقف."
المنطق الذي أدعو إليه:
"إسرائيل ستمنع ،ونحن يجب أن نبحث كيف نجعل المنع مكلفًا؟ وكيف نُدخل لاعباً ثالثاً يجبرها على الحساب؟"
هنا تتحول السياسة من رد فعل إلى هندسة ضرورية للبدائل.
المقال ليس خاتمة ،،، بل بداية مسار فكري.
ما أطرحه اليوم امتداد للمقال الأول لا تكرارًا له.
ذلك المقال حاول قراءة التحول الأميركي، أما هذا فمحاولة لزرع فكرة صغيرة في أرض صلبة:
أن التحليل بلا أفق عملي يصبح شكوى أنيقة، وأن الرؤية بلا حركة لا تتجاوز الورق.
هذا المقال ليس حلًا نهائياً، بل دعوة للحوار لا للاتفاق.
دعوة لفتح المزاج الفكري الفلسطيني على احتمالات جديدة،
وأن ننتقل من سؤال الحقوق وحده إلى سؤال المصالح،
ومن سردية المظلومية إلى بناء الروافع،
ومن انتظار الحل إلى صناعة مقدماته.
الخلاصة :
أنا أكتب لأقول إننا نستطيع ـ إن أردنا ـ أن نفكر خارج النسخة التي ورثناها.
نصنع مساحة جديدة للفعل، لا نكتفي بالتحليل.
نرسم بوابة ثالثة بين رصاصة ومفاوضة - بوابة الاقتصاد السياسي للقضية.
وإذا كان المقال الأول قراءة في تحولات القوة الأميركية،
فهذا المقال محاولة لصناعة حوار وتحريض ذهني حول كيف يمكن لفلسطين أن تدخل مشهد القوة لا كمشهد خسارة، بل كمشروع إمكانية جديدة.
ولعلّ ما هو أعظم من الكتابة نفسها ،
هو أن نترك الفكرة حيّة في أذهان من يستطيعون تطويرها أبعد مما ذهبتُ إليه.