خفض سقف استخدام النقد.. نزوح نحو السوق السوداء أم إزاحة باتجاه تحريك العجلة الاقتصادية؟

2025-12-12 17:17:35

أثار إعلان سلطة النقد الفلسطينية عن مسودة قانون لخفض سقف استخدام النقد موجة من الآراء المتباينة، منها ما يرى بأن القانون سيؤدي إلى نزوح قطاعات اقتصادية نحو السوق السوداء، ما يعني مزيداً من النزيف في الاقتصاد الفلسطيني الذي يعاني أساساً بسبب إجراءات الاحتلال المختلفة من ناحية، ومن جهة ثانية عدم السيطرة على المعابر والحدود من ناحية ثانية. بينما هناك رأي آخر يعتقد بأن هذا القانون سيسهم في إدخال قطاعات إلى الاقتصاد الرسمي، ما يدفع بعجلة الاقتصاد قدماً ويحقق النمو المطلوب.

يقول الخبير والمستشار المالي محمد سلامه لـ"صدى نيوز" إن الذريعة التي يسوقها البعض حول الخشية من عدم تدفق سيولة من فلسطينيي 48 إلى السوق الفلسطيني بسبب القانون لا أساس علمي لها، لأنهم يخضعون لقانون "لوكر" الإسرائيلي الذي وضع سقفاً قيمته (6) آلاف شيقل نقدي للصفقات كما أن بعض الشركات العاملة في قطاع العقار في الضفة على سبيل المثال تنفذ صفقات تجارية مع فلسطينيي 48 من خلال شيكات بنكية، وتوقيع تعهد بالإفصاح عن مصادر الأموال وعدم مخالفة أي قوانين سواء لدينا أو في إسرائيل، حتى تتجنب الشركات أية مسؤولية قانونية وإن كان ذلك على حساب ربحيتها.

ويقول إن المعارضة لتنفيذ القانون في أي موضوع مالي داخل المجتمع الفلسطيني ناجم بالدرجة الأولى عن عدم ثقة في السياسة النقدية والمالية بسبب تجارب سابقة وعدم وجود يقين ووضوح في واقعنا السياسي، مشيراً إلى أن إغراق السوق عبر سنوات بالشيقل ناتج عن فشل بعض أفكار السياسة المالية كالإفراط في الاقتراض بالشيقل لتمويل قروض قصيرة الأجل لدعم الرواتب مثلا تحولت إلى أعباء مالية طويلة الأجل بسبب احتجاز المقاصة وعدم توفر البدائل، ما رسخ الشيقل في الاقتصاد وزاد حجم الكتلة النقدية، لكن تطبيق القانون سيقود إلى حركة تكوين رأسمالي في قطاعات واسعة من الاقتصاد الحقيقي بدلاً من بقاء الأموال مجمده ومحيدة. ونوه إلى أن ذلك سيضعها ضمن الغلاف الضريبي، الأمر الذي سينمي الإيرادات العامة للسلطة وذلك بسبب تحويل الأموال إلى أصول رأسمالية، فحينما يضبط استخدام النقد "الكاش" تحدث إزاحة ستضطر معها قطاعات واسعة إلى تحويل ما لديها من نقود إلى الاستثمار في أصول وتحويلها إلى أصول منتجة، وهذا سيدفع العجلة الاقتصادية قدماً.

ويتوقع سلامة أن تطبيق قانون خفض استخدام "الكاش" سيرفع الناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني في أول ثلاث سنوات بنسبة لا تقل عن 30%، لأن تنفيذ القانون سيؤدي الى تراجع النقد في التداول بنسبة لا تقل عن 50% ما سيؤدي الى ارتفاع الودائع في البنوك تدريجيا وتحسن قدرتها على منح الائتمان وتوليد النقود ودعم التنمية، بالإضافة الى ما سيحدث من تحول النقود إلى مصالح فردية حتى خارج البنوك في ظل إزاحة ( للكاش) ستدفع قطاعات لتحويل النقد نحو التكوين الرأسمالي بدلا من تخزين النقد.

وأضاف لصدى نيوز: "هذا سيكون له آثار إيجابية سواء على صعيد الحد من البطالة من خلال خلق فرص عمل، والحد من الجريمة وكبح التضخم. أو على صعيد تحريك الدورة الاقتصادية وزيادة نسبة النمو والمساهمة في رفع الناتج. كما أن هناك منفعة اقتصادية من خفض التداول بالنقود الورقية تتمثل في تكلفة التداول في النقد".

ويلفت سلامة إلى أن التخوفات بأن تطبيق القانون سيدفع نحو السوق السوداء غير منطقي، فالبيئة الحالية مواتية لذلك إذ أن السوق السوداء في أوجها وتشكل حالياً نحو 50% (حسب خبراء) من الاقتصاد الفلسطيني الحالي في ظل حالة عدم التحكم بمكونات الاقتصاد وعدم السيطرة على المعابر والحدود.

وينوه إلى أن اتساع السوق السوداء حالياً مؤشراته واضحة من خلال حجم النقد الموجود خارج سيطرة سلطة النقد والبنوك، والعمليات التجارية التي تجري خارج الغلاف الضريبي، مشيراً إلى أن القانون أصبح ضرورة ملحة في ظل مواجهتنا مع الاحتلال حالياً، مؤكداً أن تطبيقه سيقود مثلاً إلى التخلص التدريجي من مشكلة "تكدس الشيقل" التي تكبل الاقتصاد الفلسطيني. ويؤكد سلامه أن تطبيق القانون سيخلق الآليات التي ستؤدي إلى النتائج الايجابية المرجوة منه.

ويدعو سلامة إلى تشكيل لجنة خبراء من القطاعين العام والخاص لتسريع البحث في أثر تطبيق القانون وليس اللجوء إلى حوار شعبي واسع، لأن هناك جوانب فنية وتوازنات مصالح تحتاج الخبرة لفحصها، والتأكد من أن تنفيذ القانون هو في مصلحة المواطن والوطن.

وكان عدد من ممثلي القطاع الخاص أبدوا تخوفهم خلال لقاء حواري نظمته سلطة النقد حول مشروع قانون خفض استخدام النقد، من أن يقود هذا القانون قطاعات اقتصادية إلى الخروج من السوق الرسمي.

بدوره، يقول رئيس اتحاد الغرف التجارية والصناعية والزراعية عبده إدريس إن ضرورة التوازن بين عمليات الشمول المالي وبين حماية الدورة الاقتصادية خاصة في هذه المرحلة الصعبة التي تمر بها فلسطين، مشيراً إلى أن أكثر من (15) مليار شيقل ما زالت موجودة في أيدي المواطنين وخارج القطاع المصرفي، محذراً من أن هذا الواقع يضغط على البنوك الفلسطينية ويدفع جزءاً من هذا النقد إلى البنوك الإسرائيلية.

وذهب ممثلون آخرون من القطاع الخاص من بينهم ممثلون عن اتحاد الصناعات ومجلس تنسيقي القطاع الخاص ونقابة أصحاب محطات الوقود إلى ضرورة "عدم التسرع" في إقرار القانون أو تطبيقه على مراحل، مستندين في ذلك إلى عدة مبررات منها: التخوف من نزوح قطاعات نحو السوق السوداء، وكذلك الخشية من الحدّ من تدفق "الكاش" من فلسطييني 48 إلى الأسواق الفلسطينية والذي بدوره يسهم في تحريك الدورة الاقتصادية، وكذلك عدم توفر البيئة الرقمية المناسبة في العديد من المناطق الجغرافية الفلسطينية، الأمر الذي سيخلق صعوبات أمام تطبيق القانون.

من جهته، يرى الخبير الاقتصادي د. سعيد صبري أن القانون سلاح ذو حدين. فهو من ناحية أداة قوية لتعزيز الاقتصاد الرسمي. ويقول: "عندما نجبر التعاملات المالية على المرور عبر القنوات البنكية، فإننا نزيد من الشفافية ونمنح الدولة قدرة أكبر على تتبع الأموال ومكافحة التهرب الضريبي وغسيل الأموال"، لافتاً إلى أن ذلك بدوره يعزز الإيرادات العامة ويقوي الثقة في النظام المالي، ما قد يجذب استثمارات جديدة على المدى الطويل.

ويضيف: "إنها خطوة ضرورية لدمج جزء كبير من الاقتصاد الذي يعمل حالياً في الظل. لكن من ناحية أخرى، لا يمكننا تجاهل التأثير المباشر على الاقتصاد غير الرسمي. هذا القطاع، الذي يشكل جزءاً كبيراً من اقتصاداتنا ويعتمد بشكل شبه كلي على النقد، سيواجه تحدياً وجودياً"، مشيراً إلى أن ملايين المشاريع الصغيرة، والحرفيين، والعمالة اليومية. فرض التحول الرقمي عليهم بشكل سريع ودون توفير بدائل عملية ومنخفضة التكلفة، أو حتى حوافز تشجيعية، قد يؤدي إلى انكماش حاد في أنشطتهم.

ويتابع: "هذا يعني تباطؤاً محتملاً في الدورة الاقتصادية على المدى القصير، حيث قد تتجمد أو تتعثر الكثير من المعاملات اليومية".

ويخلص إلى القول بأن القانون قد يقود إلى "ولادة قيصرية" لاقتصاد رسمي أكثر تنظيماً، لكن هذه الولادة قد تكون على حساب معاناة كبيرة للسوق غير الرسمي.

ويشير إلى أن نجاح هذه العملية الانتقالية يعتمد كلياً على حكمة التطبيق. متسائلا: "هل سيكون تدريجياً؟ هل سيصاحبه دعم فني ومالي للشركات الصغيرة؟ وهل سيتم توفير بنية تحتية رقمية آمنة ومتاحة للجميع؟".

ويقول: "إذا لم تتم معالجة هذه النقاط، فإننا نخاطر بأن تكون التكلفة الاقتصادية والاجتماعية لهذا التحول أعلى بكثير من الفوائد المرجوة".

من جهته، يعتقد نائب محافظ سلطة النقد محمد مناصرة أن القانون سيسهم حتماً في المساهمة بدفع العجلة الاقتصادية إلى الأمام، لأن هناك قرابة (8) مليارات دولار مجمدة ومحيدة في التأثير على الاقتصاد نتيجة عدم استثمارها مصرفياً، وهي عبارة عن نحو (15) مليار شيقل (4.6 مليار دولار) من الأموال المتكدسة في البنوك بعملة الشيقل نتيجة رفض اسرائيل استقبالها، بالإضافة إلى قرابة 2.7 مليار دولار عبارة عن (Swap)، أي عمليات بيع العملة الأجنبية مقابل الشيقل مع حق إعادة الشراء مقابل رسوم أو سعر معين، إذ تقوم البنوك بإجراء مبادلات من خلال استخدام هذه الأموال بهدف شراء شيقل لاستخدامه في عمليات تمويل التجارة مع اسرائيل، كما هناك قرابة (700) مليون دولار نقد متراكم وهوعبارة عن فائض السيولة بعملة الدولار في المصارف.

يذكر أن مشروع قانون خفض الشيقل الذي أعلنت عنه سلطة النقد ينص على منع الدفع النقدي في المعاملات التي تتجاوز قيمتها عشرين ألف شيقل أو ما يعادلها بالعملات الأخرى، مع منح سلطة النقد صلاحية تعديل هذا السقف بالتنسيق مع وزارة المالية والجهات ذات العلاقة. كما يخوّل مشروع القانون سلطة النقد وضع حدود قصوى للقروض النقدية، والتبرعات والهبات النقدية، ومعاملات القطاعات الحساسة مثل العقارات والسلع الفاخرة، لضمان الشفافية وتقليص فرص غسل الأموال.

وحسب مسودة القانون المقترح المقدم من سلطة النقد، فإنه يضع حداً لسقف التعامل النقدي عند 20 ألف شيقل للصفقة التجارية الواحدة مستندة في ذلك إلى أن 96% من الإيداعات النقدية بعملة الشيقل حاليا تقل عن عشرين ألف شيقل.