لماذا يتنمّرون علينا؟؟
نحن نشبه كل شعب آخر، فينا العبقري والمجنون والأهبل والمبدع والمجرم، وعندنا أطباق خاصة بنا كما عند الآخرين، ونتداول مصطلحات ومجازات لا يفهمها إلا أفراد جماعتنا، تماماً مثل كل جماعة في الأرض، وعندنا تنوع وتعدد وثراء، وتجمعنا الحكايات والأساطير والشخصيات العظيمة، ونتشاطر التحديات والأهداف، ونختلف على الوسائل والمرجعيات، تماماً مثل كل شعوب الأرض، نحن لسنا شعباً استثنائياً أو خارقاً للعادة، وعلى الرغم من ذلك، فإننا شعب استثنائي وفريد أيضاً، ليس لأننا مختلفون، ولكن لأن المكان الذي نعيش فيه استثنائي وفريد ولا شبيه له في الدنيا.
نحن نعيش في مكان لا يشبه بلاد الإغريق، فهؤلاء طرحوا الأسئلة، أما نحن فقد قدّمنا الإجابات، ونحن لسنا العراق التي اخترعت الساعة، فنحن الذين نمثّل أشراطها، ونحن لسنا في مصر التي تسير على حافة الغموض والسحر من خلال أبنية مثل الألغاز، إذ نمتلك بناء يتقاتل عليه الناس، ولسنا في الحجاز التي يحج إليها المؤمنون من كل فجٍّ عميق، بل نحن في بلاد يُختبر فيها إيمان الناس جميعاً، نحن لسنا محميين بجبال عالية أو صحاري قاحلة ولا نمتلك ثروات ولا مزايا، ولكن أرضنا محبوبة ومطلوبة على مدى التاريخ، فقراء ولكننا قدمنا للعالم حبكاته الكبرى، رسالة الله المتصاعدة والمتكاملة، نحن نعيش في "الأرض" كما يشير إليها القرآن الكريم وكأنه يختزل كل العالم بها، ولأنها "الأرض" فقد باركها خالقها، منحها البركة والقداسة، فحوّلها البشر إلى مكان للقتل والظلم.
الأماكن المقدسة أماكن إشكالية على مرّ التاريخ كله، وحولها تُسفك الدماء وترتكب الخطايا، نحن نعيش في مكان كهذا، مُنحنا الفرصة لأن نحمي المكان الفقير الباهظ والقتيل والمبارك، ندفع ضريبة الحب القاتل والطمع المتوحش، ونقاتل من أجل بقاء المعنى المقدس.
نحن بالذات، لحكمة الله البالغة، مطلوب منا أن نحمل الأمانة الثقيلة، ونحن على ما نحن عليه من نواقص وعيوب مطلوب منا أن نقبض على الجرح والجمر أمام العالم كله، ونحن بالذات، المنهكون والمتعبون والجوعى والعراة، مطلوب منا أن نرفع السقوف كلها ونحمي الثغور ونرد على العدوان، المكان يرفعنا إليه – شئنا أم أبينا – وطبيعة الصرع وأطرافه يستخرج منا أفضل ما يمكن للإنسان أن يقدّمه أو يضحي به، إذ يتداخل في هذا الصراع، الأرضي والسماوي، المرئي وغير المرئي، الحاضر والماضي والمستقل، وأولئك الذين ذهبوا وأولئك الذين سيأتون أو "ينزلون"، هؤلاء هم نحن، شعب قد يثير الغيرة أو الشفقة أو الفخر أو الاستفزاز أو حتى الازدراء.
أقول ذلك كله تعليقاً على ما أقرأه وأُشاهده من حملات تشكيك وتنمّر وإسفاف، حملات يشارك فيها القريب والبعيد، في بعضها الجهل الذي يثير الضحك، وفيها القصد الذي يثير الانتباه واليقظة، فهذه الحملات تنطوي على لوم الضحية من جهة، باعتبار هذا اللوم غير مكلف ويعطي ذريعة لعدم التدخل أو المساعدة، ومن جهة أخرى، هناك شيطنة كاملة وشاملة تهدف إلى نزع الشرعية كلها عن الشعب الفلسطيني، وهناك في هذه الحملات خطاب ممنهج يهدم تصوّرنا عن أنفسنا ويحاول إخراجنا من التاريخ كله، ولهذا فهي حملات معيبة ومشبوهة، أكانت عن جهل أو تعصب أو غير ذلك، وهي حملات مستمرة تواصلت على مدى سنتين من الجحيم الذي مازلنا نعيش في أعماقه حتى اللحظة، أكان ذلك بالنار أم بالغرق والظلام والجوع والمرض، وهي حملات ما تزال مستمرة ربما لتبرر ما يجري من فضائح لم تعد خافية على أحد، هي حملات تغطي على تجبّر إسرائيل وتفردها في تفسير الاتفاقات أو التفاهمات، وتُعمي العيون عن ما يجري تحت الطاولة وفوقها، أو تُمهّد لإجراءات بعيدة المدى.
استمرار هذه الحملات يترافق مع غياب الفعل الرسمي والجهد الشعبي، وتترافق مع القرارات والإجراءات التي تتساوق مع فكرة إرجاء حل الدولتين والتهيئة لتسيّد إسرائيل على المنطقة كلها، حملات تتنمّر على الشعب الفلسطيني بدلاً من التضامن معه.