مسار الإعتداء الإسرائيلي – الأمريكي على الأونروا يمكن عكسه

2025-12-14 17:20:27

تدرس إدارة ترمب وفق ما تسرب، فرض عقوبات متعلقة بالإرهاب على وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"، في خطوة تعتبر الأخطر منذ تأسيس الوكالة عام 1949. ويأتي ذلك بعد أن كان الكنيست الإسرائيلي قد أقر في نهاية يناير 2024 قانوناً يحظر عمل الوكالة في إسرائيل والأراضي الفلسطينية، في محاولة غير مسبوقة لنسف آخر الأعمدة القانونية والمؤسساتية التي تكرّس حق العودة للاجئين الفلسطينيين. هذا التزامن بين قرار إسرائيلي منفذ وقرار أمريكي قيد الإعداد ليس مجرد تقاطع مصالح، بل هو تعبير واضح عن توجه سياسي مشترك يستهدف تصفية جوهر قضية اللاجئين، عبر ضرب المؤسسة الدولية الوحيدة التي ما تزال تحفظ هذا الحق في الخطاب الدولي، وفي بنية الخدمات التي يعتمد عليها ملايين الفلسطينيين في غزة والضفة ولبنان وسوريا والأردن. فمنذ النكبة، شكل وجود الأونروا اعترافاً عملياً من المجتمع الدولي بأن قضية اللاجئين ليست ملفاً إنسانياً فقط، بل أيضا قضية سياسية متجذرة في ظلم تاريخي لم يُرفع بعد. ومن هنا، فإن تجريد الوكالة من شرعيتها أو وسمها بالإرهاب أو منعها من العمل هو في جوهره محاولة لمحو هذا الاعتراف، وإعادة صياغة الواقع القانوني والسياسي كي يظهر وكأن حق العودة أمر غير موجود أو غير ممكن.

وتأتي هذه الخطوات في واحدة من أحلك اللحظات التي يمر بها الشعب الفلسطيني، خصوصاً في قطاع غزة، حيث تتدهور الأوضاع الإنسانية بشكل غير مسبوق بعد الحرب الطويلة وما رافقها من قتل وحصار ودمار لمقومات الحياة الأساسية. ففي الوقت الذي يواجه فيه سكان غزة خطر المجاعة وتفشي الأمراض وانهيار النظام الصحي وانعدام المياه الصالحة للشرب، تُقدِم واشنطن وتل أبيب على حظرالوكالة التي تُعد المصدر الأول للمساعدات العاجلة والإغاثية في القطاع. ولا يمكن قراءة هذا التناقض إلا باعتباره استكمالاً لنهجٍ يرى في الضغط الإنساني وسيلة للضغط السياسي، وفي حرمان اللاجئين من الخدمات الأساسية طريقة لفرض حلول أمر واقع تتجاهل حقوقهم الوطنية. فبدلاً من أن يكون المشهد موجهاً نحو زيادة الدعم الدولي لغزة، نجد محاولة لتجفيف موارد المؤسسة الوحيدة القادرة على إدارة عملية الإغاثة بشكل منظم وبخبرة تراكمت على مدى عقود. وهذا يكشف أن الهدف السياسي يتقدم على أي اعتبار إنساني، وأن القرارات الأمريكية والإسرائيلية ليست استجابة لوقائع ميدانية، بل اعتداء مقصود على بنية اللجوء الفلسطيني.

وعلى عكس ما تروج له بعض الدعايات الإسرائيلية والأمريكية حول استقلالية الأونروا أو ادعاءات سوء الإدارة، فإن الوكالة ليست كياناً منفصلاً عن النظام الدولي، بل هي إحدى مؤسسات الأمم المتحدة التي وُلدت بقرار من الجمعية العامة، والتي وقّعت إسرائيل والولايات المتحدة على ميثاق تأسيسها وتعهدتا بالالتزام به. كما أن هذه المنظمة الدولية ذاتها هي التي اعترفت بإسرائيل ومنحتها شرعية الانضمام إلى المجتمع الدولي. من هنا، فإن استهداف مؤسسة من مؤسسات الأمم المتحدة لا يحمل فقط دلالات سياسية ضد الفلسطينيين، بل يمسّ جوهر النظام الدولي نفسه، وشرعية الأمم المتحدة كمنظّم للعلاقات بين الدول. فحين تقوم دولة عضو ـ بل إحدى الدول المؤسسة ـ بتجريم هيئة أممية واتهام موظفيها أو إغلاق مكاتبها بالقانون، فإن ذلك يشكّل سابقة خطيرة تهدد كامل منظومة العمل الدولي، وتحوّل الأمم المتحدة إلى إطار ضعيف تتلاعب به الدول القوية متى شاءت. وهذا الخلل في ميزان الشرعية يفتح الباب أمام مزيد من الفوضى السياسية والقانونية، ويجعل من المنظمة الدولية مجرد شاهد على القرارات الأحادية بدلاً من كونها حارسًا للقانون الدولي.

والحقيقة أن الأونروا ليست مجرد هيئة إغاثة، بل هي مؤسسة تمتلك بنية تحتية واسعة وخبرة متراكمة في شؤون اللاجئين الفلسطينيين تمتد على مدار أكثر من سبعين عاماً. فهي تدير المدارس والمراكز الصحية ومخيمات اللاجئين وتدير برامج الإغاثة والتمويل الصغير، وتقدّم خدمات لا تستطيع أي هيئة دولية أو إقليمية أخرى أن تقدمها بالكفاءة والسرعة والمرونة نفسها. وقد أثبتت التجربة ـ سواء في حروب غزة المتعاقبة أو في أزمات اللجوء بسوريا ولبنان ـ أن أي جهة أخرى لا تملك القدرة اللوجستية ولا الفهم الاجتماعي ولا الخبرة الميدانية التي راكمتها الأونروا في التعامل مع بيئة اللجوء الفلسطيني. لذلك، فإن استهداف الوكالة أو محاولة استبدالها ببرامج جديدة هو في الحقيقة هدم لهيكل خدماتي كامل لا يمكن إعادة بنائه بسهولة، وسيُدخل ملايين اللاجئين في فراغ خطير يهدد حياتهم ومستقبل أطفالهم وتعليمهم وصحتهم. بل إن هذا الاستهداف قد يفتح الباب أمام فوضى في إدارة المخيمات، ويدفع نحو انهيار اجتماعي واسع، ما يجعل القرارات الإسرائيلية والأمريكية ليست مجرد "حظر" أو "عقوبات"، بل تفكيكاً لمنظومة حياة كاملة.

ورغم خطورة هذه القرارات، فإنها ليست قدراً محتوماً ولا مساراً لا يمكن عكسه. فالأمم المتحدة، بصفتها الهيئة التي أنشأت الأونروا، تتحمل المسؤولية الأولى في حماية مؤسساتها من التعديات التي تمسّ ميثاقها. وبوسعها، وفق آليات الميثاق، اتخاذ إجراءات حقيقية تبدأ بتجميد عضوية الدول التي تخلّ بالتزاماتها، بما فيها إسرائيل التي باتت تقرّ قوانين تتعارض مع صلب مبادئ المنظمة الدولية. كما أن المجتمع الدولي، إذا أراد الحفاظ على الحد الأدنى من توازن النظام العالمي، يجب أن يتحرك بشكل يتجاوز بيانات الإدانة التقليدية، نحو خطوات ضغط دبلوماسية واقتصادية وقانونية تفرض احترام الشرعية الدولية، وتمنع تحويل المؤسسات الأممية إلى ساحات صراع سياسي. إن االمسألة تتجاوز فلسطين وحدها، وتمسّ مستقبل القانون الدولي ذاته، وحق الشعوب في الحماية تحت مظلة الأمم المتحدة. إن الدفاع عن الأونروا اليوم ليس دفاعاً عن مؤسسة فحسب، بل دفاع عن حق العودة، وعن كرامة ملايين اللاجئين، وعن بقاء النظام الدولي قادراً على أداء دوره في زمن تتزايد فيه النزاعات والانهيارات الإنسانية.

وفي ظل تفاقم الكارثة الإنسانية في قطاع غزة، تصبح الحاجة إلى تدخل عاجل من مؤسسات الإغاثة الدولية، بما فيها المنظمات التابعة للأمم المتحدة، أمراً لا يحتمل التأجيل. فالقطاع يواجه انهياراً شبه كامل في الخدمات الصحية ونقصاً حاداً في الغذاء والمياه والأدوية، ما يفرض على المجتمع الدولي تحمّل مسؤولياته الأخلاقية والإنسانية عبر تقديم مساعدات فورية ومنظمة. ومع ذلك، يجب التأكيد أن هذا التدخل الإغاثي العاجل لا يمكن أن يكون بديلاً عن الأونروا، التي تمتلك وحدها البنية التحتية والخبرة اللازمة لإدارة ملف اللاجئين الفلسطينيين. فدور المؤسسات الأخرى يجب أن يكون مرحلياً ومسانداً فقط، ريثما تُسوى قضية الحظر الإسرائيلي والقرار الأمريكي المحتمل، وتستعيد الوكالة قدرتها الكاملة على أداء مهامها. وإن أي محاولة لتقديم الإغاثة بعيداً عن إطار الأونروا تهدد بتفكيك منظومة خدمات راسخة منذ عقود، وتخلق فراغاً خطيراً يفاقم معاناة اللاجئين الفلسطينيين بدل التخفيف منها.