انهيار العالم العربي: بين الصدأ الداخلي والمطرقة الخارجية
لم يسقط العالم العربي دفعة واحدة، ولم يُسقَط بالكامل من قوى الخارج! فالانهيار كان عملية بطيئة: بدأ ولم ينته بصدأ داخلي أكل العصب ونخر العظم بحيث اصبح من شبه المستحيل إيقاف الضعف والترهل ، و لا نستهين بالضغط الخارجي الذي كان متيقظا للحدث ومستدركا للضعف واستثمر اللحظة بذكاء ودهاء وخبث وغدر وقام بتشريح لـ"جثة" لم تمت فجأة، بل أنهكت نفسها بنفسها على مر العصور وتميزت قياداتها بالتفرد بالحكم وحب السيطرة والعدوانية وبالغدر والتواطؤ والخنوع والركوع طويلاً امام قوى الغرب حتى سقطت .
وعن عامل الدين اقول : من الجسر إلى الحاجز
لنبدأ بالدين – الذي كان يفترض أن يكون جسرًا للولاية وللإنسانية وللعدل والسماحة والحكم الرشيد والرأفة والرحمة بين الشعوب والاتحاد – للأسف الشديد تحوّل إلى حدّ فاصل حيث تحوّل الدين وللاسف الشديد، من منظومة أخلاقية جامعة إلى بطاقة هوية حزبية فئوية ضيقة وطاردة للتعايش بسلام وامان وحين خرج الدين من المسجد والكنيسة إلى ساحة السياسة بلا عقلٍ ولا دولة، صار وقودًا للانقسام لا نورًا للهداية.
هنا تتجلى أزمة التدين الشكلي التي تحدث عنها كثيرون: "نُصلّي كثيرًا، ونلتزم قليلًا، نقدّس النص، ونهمل القيم، نكثر من الشعائر، ونفقر في السلوك" والكارثة أن دينًا بلا عدل، بلا علم، بلا دولة… يتحول من رسالة حياة إلى سبب فرقة وانقسام وتشرذم وتسلط وهذا يذكرنا بالمفكر محمد عابد الجابري والذي قال : "الاستبداد الديني هو أخطر أنواع الاستبداد، لأنه يستمد شرعيته من السماء لا من الأرض".
قوى الداخل: الدولة التي غابت وحضرت بل استبدلت بالقبيلة والعشيرة والحزب والجبهة والفئوية
في الداخل، غابت الدولة… وحضرت القبيلة والنتيجة كما أراها: انهارت المؤسسات، وازدهرت الواسطة. تراجع حكم القانون، وغابت الشفافية، فصار القرب من السلطة أهم من الكفاءة وصار الغدر "مهارة اجتماعية"، والفهلوة سلوكًا بديلاً، والنميمة سلّم صعود، والفجور خطابًا مموّهًا بالدين.
هذا الانهيار المؤسسي ليس وليد الصدفة لا إنه نتاج ثقافة الاستبداد الطويل التي أنجبت فقرًا طويلًا، والقمع عطّل العقل، والعقل المعطّل أنتج جهلاً والجهل بحث عن خلاص سريع – فوجد الطائفية، والسحر، والخرافة، والفتاوى السهلة كما يقول الفيلسوف علي حرب: "المجتمعات التي تخاف من حرية الفكر، تدفع ثمن ذلك بانهيار العقل الجماعي".
الخارج: المستثمر لا المحب ولا الكاره
أما الخارج، فلم يكن بريئًا ولا شيطانًا أسطوريًا فالقوى العظمى لا تُحب ولا تكره – بل تستثمر حيث دخلت منطقتنا حين وجدتها متاحة ومفتوحة، منقسمة على ذاتها، بلا سيادة، بلا مشروع وطني، بلا ديمقراطية، بلا حوار، بلا إجماع، وبلا مناعة.
دول الغرب قسّمت، دعمت، حرّضت – نعم لكنها لم تخترع ضعفنا، بل قرأته جيدًا وبوضوح، وكانت سببا فيه، واتخذت الإجراء المناسب تباعًا كما يلاحظ إدوارد سعيد حين قال : "الاستعمار الجديد ينجح فقط عندما يجد تربة خصبة من التخلف والانقسام".
ما ذا عن الصهيونية: التنظيم في مواجهة الفوضى
وللعلم، فالصهيونية العالمية لم تنتصر لأنها خارقة، بل لأنها نظّمت نفسها، بينما كنّا منقسمين متعادين متحاربين متناحرين نحن ننظّر باستخفاف ودونما اكتراث في هشاشة تركيبتنا وأمورنا ونزاهتنا الداخلية واقتتالات على الحكم والتحكم والسلطة والتسلط، فكان الوقت كافيًا للصهيونية العالمية ان تنمو وتزدهر وتخترق الجسم المتهالك الضعيف .
الصهيونية منذ البدايات بنَت مؤسسات، ونحن بنينا شعارات فضفاضة ، الصهيونبة خطّطت للمستقبل، ونحن تفاخرنا بالماضي باسم الدين وقاعدة الحكم الاستبدادي المتعفن . هي جمعت شتاتها، ونحن فرقنا جمعنا والفارق ليس في القوة، بل في الإرادة والتنظيم والرؤية.
المؤامرة: الهروب الناعم من المسؤولية
أما "المؤامرة الكبرى" والماسونية والحكومة الخفية – فهي موجودة بقدر ما توجد المصالح واللوبيات في كل العالم لكن تحويلها إلى تفسير شامل لكل فشل هو هروب ناعم من المحاسبة الذاتية.
المؤامرة لا تنجح إلا حين تجد مجتمعًا مكسورًا من الداخل وهي استراتيجية قديمة: ابحث عن الشقاق الداخلي، وعززه، ثم إدارة الصراع من الخارج لكن اللوم الدائم على الآخر يعفي الذات من المسؤولية، كما يحذر المفكر جلال أمين: "إن أسوأ أنواع التبعية هي تبعية العقل التي تجعلنا نرى كل مشاكلنا مستوردة من الخارج".
الخلاصة: شروط القوة المفقودة
العالم العربي لم يُهزم لأن أعداءه أقوياء فقط، بل لأنه تخلّى عن شروط القوة:
• دولة تحكم بالقانون لا بالأشخاص والشللية
• تعليم يُعلّم السؤال لا الطاعة العمياء
• دين يُنتج أخلاقًا جامعة لا اصطفافات مُفرّقة
• نخبة تخدم المجتمع لا السلطة والحاكم
الخلاص ليس في لعنة الخارج الدائمة، ولا في نظريات المؤامرة المريحة. الخلاص في مواجهة الذات بقسوة وأمانة وفي الاعتراف بأن الاستبداد الداخلي مهّد الطريق للهيمنة الخارجية وفي فهم أن القبيلة التي حكمت مكان الدولة هي من فتحت الباب على مصراعيه.
الطريق أصعب من نظرية مؤامرة – لأنه طريق المسؤولية والمحاسبة والبناء لكنه الطريق الوحيد الذي يستحق أن يُسلك ! طريق لا يبدأ بلعن الظلام، بل بإشعال شمعة، شمعة العقل، والعدل، والمؤسسة، والمواطنة.
كما قال مالك بن نبي: "مشكلتنا ليست في عدم وجود أفكار، بل في عدم وجود رجال يحملون الأفكار". اليوم، الرجال لا تكفي – نحتاج مؤسسات تحمل القيم، وتحميها من عبث الأشخاص.
الانهيار كان خيارًا تراكميًا، والنهضة ستكون خيارًا أيضًا. خيارًا يصنعه من يرفضون أن يكونوا حرسًا للخراب، ويختارون أن يكونوا بنّاءً لمسار مختلف. مسار لا يبدأ من الصفر، بل من الاعتراف بالهزيمة كأول خطوات النصر.