رَفْضُ الِاحْتِلالِ و مواجهته واجب اخلاقي و لَيْسَ مُعاداةً لِلسّامِيّة

2025-12-19 19:32:56

أحدُ القلائلِ الذين عرفوا مبكرًا طبيعةَ الحركةِ الصهيونيةِ كان رجلَ الأعمالِ الأمريكيَّ من أصولٍ يهودية، وهو ناقدٌ للحركةِ الصهيونية، بنيامين هيرسون فريدمان، الذي ألقى خطابًا في واشنطن صيفَ 1961، ردَّ فيه على تزايدِ تحكُّمِ إسرائيلَ في السياسةِ الأمريكية بعد نحوِ عقدٍ من قيامها. ركّز فريدمان على فكرةٍ مركزيةٍ مفادُها أنَّ اليهوديةَ كدينٍ تختلفُ جوهريًا عن الصهيونيةِ كحركةٍ سياسيةٍ استعماريةٍ حديثة، فهي ليست امتدادًا طبيعيًا لليهودية، بل مشروعٌ سياسيٌّ استعماريٌّ يسعى لإقامةِ دولةٍ قوميةٍ بغطاءٍ دينيٍّ في فلسطين. من أهمِّ أهدافِ المشروع: التخلّصُ من اليهود، واستثمارُ كيانهم المُصطنَع لمنعِ الوحدةِ العربيةِ والسيطرةِ على ثرواتِ الشرقِ الأوسط، وذلك عبر استغلالِ معاناةِ يهودِ أوروبا لتحقيقِ هذا الهدفِ غيرِ المُعلَن.

استعرض فريدمان الأحداثَ التاريخيةَ الكبرى، بدءًا من وعدِ بلفورَ عامَ 1917، مؤكدًا أنَّ الدعمَ البريطانيَّ للصهيونية لم يكن نتيجةَ تعاطفٍ أخلاقيٍّ مع اليهود، بل كان حسابًا سياسيًا دقيقًا لاستقطابِ دعمِ جماعاتٍ يهوديةٍ مؤثرةٍ في الولاياتِ المتحدةِ وروسيا خلالَ الحربِ العالميةِ الأولى. وأوضح أنَّ الصهيونيةَ منذُ بداياتها حوّلت معاناةَ اليهودِ في أوروبا إلى أداةٍ لتحقيقِ أهدافِها القومية، متجاهلةً حقوقَ الفلسطينيين وواقعَهم التاريخي، واستغلّت مأساةَ الهولوكوست لتبريرِ إقامةِ الدولةِ الإسرائيلية، وهو ما شكّل خلطًا خطيرًا بين العدالةِ التاريخيةِ والانتقامِ السياسي، وتحويلَ معاناةِ ملايينِ البشر إلى مُبرِّرٍ سياسيٍّ لمشروعٍ استعماريٍّ.

كما أشار إلى التأثيرِ الكبيرِ للصهيونيةِ على السياسةِ الأمريكية في الأربعينياتِ والخمسينيات، من خلالِ الإعلامِ والمالِ والضغطِ السياسيِّ المُنظَّم، ما ساعد الحركةَ على التأثيرِ في صُنّاعِ القرارِ الأمريكيين وتوجيهِ السياسةِ في الشرقِ الأوسط أحيانًا لصالحِ إسرائيلَ على حسابِ مصالحِ الولاياتِ المتحدة، وزيادةِ التوترِ مع العالمِ العربي وتهديدِ الاستقرارِ الإقليمي. وتطرّق أيضًا إلى مسألةِ «الولاءِ المُزدوج»، موضحًا أنَّ النقدَ موجَّهٌ لظاهرةِ تقديمِ بعضِ الصهاينةِ مصالحَ إسرائيلَ على مصالحِ دولتهم، وليس اتهامًا لكلِّ اليهود، وحذّر من استخدامِ تهمةِ «معاداةِ السامية» لإسكاتِ النقدِ المشروع، ما يُحوّل المصطلحَ الأخلاقيَّ إلى أداةٍ سياسيةٍ تُسكت النقاشَ العقلاني وتحرمُ المجتمعَ الدولي من النقاشِ الحقيقي حول سياساتِ دولةٍ استعمارية.

اختتم فريدمان خطابه بالتأكيد على أنَّ السلامَ في الشرقِ الأوسط لن يقومَ بالقوةِ أو الدعمِ الدوليِّ غيرِ المشروط، بل على الاعترافِ بالظلمِ التاريخيِّ الذي لحقَ بالشعبِ الفلسطيني وفصلِ الدينِ اليهوديِّ عن المشروعِ الصهيوني، بحيث يظلُّ النقدُ السياسيُّ ممكنًا دون الإساءةِ لليهودية. وأكد فريدمان أنَّ اليهودَ أنفسَهم لديهم دورٌ أساسيٌّ في حمايةِ قيمهم الدينيةِ والأخلاقية من خلالِ التنصُّل من ممارساتِ الاحتلال والمشاركةِ في رفضِ السياساتِ الاستعمارية التي تنتهكُ حقوقَ الفلسطينيين، ليس في ذلك انتقادٌ لمعتقداتهم، بل حمايةٌ لهويتهم الدينية وتعزيزٌ لشرعيتها الأخلاقية أمام العالم. فرفضُ الاحتلالِ والممارساتِ غيرِ العادلة يتيحُ لليهودِ التمييزَ بين دينهم وبين مشروعٍ استعماريٍّ سياسي، ويحولُ دون أن يُساقَ دينُهم كذريعةٍ لتبريرِ سياساتِ عنفٍ واستعمار، كما يحميهم من الاتهاماتِ التاريخيةِ بالانحيازِ لممارساتٍ ظالمة.

يمكن استخلاصُ مجموعةٍ من النقاطِ الجوهرية من تحليله: ضرورةُ التمييزِ الواضح بين اليهوديةِ والصهيونية، اعتبارُ الصهيونية مشروعًا سياسيًا استعماريًا يسعى لتحقيقِ أهدافٍ قومية على حسابِ الفلسطينيين، التحذيرُ من استغلالِ مأساةِ اليهود لتبريرِ قتلِ شعوبٍ أخرى، إبرازُ تأثيرِ الصهيونيةِ على السياسةِ الأمريكية، وتشجيعُ اليهود على رفضِ المشاركةِ في ممارساتِ الاحتلال والدفاعِ عن القيمِ الإنسانيةِ والدينية.

بعد عقدٍ من الزمن، وضع أبا إيبان الموقفَ الرسميَّ الإسرائيليَّ من انتقادِ الحركةِ الصهيونية، مؤكدًا في عامَ 1972 أنَّ انتقادَ الصهيونيةِ كمشروعٍ سياسيٍّ استعماريٍّ يُعتبَر معاداةً للسامية، وأنَّ أيَّ نقدٍ لإقامةِ الدولةِ اليهودية لا يمكن فصلُه عن تاريخِ العداءِ لليهود. نقل أبا إيبان النقاشَ من التحليلِ السياسي إلى الدفاعِ الأيديولوجيِّ الرسمي، رابطًا بين الصهيونية، واليهودية، والدولة، وصاغ قاعدةً للخطابِ الإسرائيليِّ لاحقًا مفادُها أنَّ أيَّ تشكيكٍ في الصهيونية يُنظر إليه كعداءٍ للسامية، وأنَّ النقدَ السياسيَّ لمشروعِ الدولة يصبح جزءًا من صراعٍ أوسع حول الشرعيةِ الدوليةِ والاعترافِ بالهويةِ اليهودية.

في الوقتِ الراهن، يُعتبر موقفُ الحكومةِ الإسرائيلية، التي يمثلها رئيسُ الوزراء بنيامين نتنياهو، امتدادًا لهذه السياسةِ الرسمية، إذ يرى أنَّ معاداةَ الصهيونية ليست مجردَ نقدٍ سياسيٍّ عادي، بل هي نوعٌ من معاداةِ الساميةِ المعاصرة. فمن يعارضُ الاحتلالَ أو إقامةَ دولةٍ يهوديةٍ يشبه من يُنكر حقَّ أيِّ شعبٍ في تقريرِ مصيره، ويربط نتنياهو بين النقدِ الذي يستهدفُ الصهيونية ورفضِ الاحتلال، معتبرًا أنَّ ذلك يعيدُ إنتاجَ أشكالِ معاداةِ الساميةِ التاريخية ويشكّل تهديدًا لشرعيةِ إسرائيلَ وأمنِ اليهود حول العالم.

في الوقتِ نفسه، لم يعد انتقادُ السياساتِ الإسرائيلية يقتصر على الصهيونيةِ كمشروعٍ سياسيٍّ استعماري، بل امتدَّ إلى رفضٍ دوليٍّ للاحتلال وممارساته. ومن ينظرُ إلى معارضةِ الاحتلال على أنها شكلٌ من أشكالِ معاداةِ السامية يتخطّى الحرياتِ الفرديةَ والعامة، مما يعقّد النقاشَ حول حدودِ النقدِ المشروع. وتبيّن هذه المقاربة كيف يمكن أن يتحوّل الانتقادُ السياسي إلى صراعٍ بين حريةِ التعبير والدفاعِ عن المشروعِ الاستعماريِّ الصهيوني، كما يتضح في نشاطاتِ شخصياتٍ مثل ليورا ريز في الولاياتِ المتحدة، التي تراقبُ كلَّ من ينتقدُ إسرائيلَ أو يدعمُ مقاطعتَها، وتوثّق ذلك للجامعاتِ والشركاتِ والهيئاتِ الحكومية، ما يُفسَّر كتهديداتٍ غيرِ مباشرةٍ للضغط على منتقدي السياساتِ الإسرائيلية اجتماعيًا ومهنيًا، ويُظهر كيف يتحولُ الانتقادُ السياسي إلى صراعٍ بين حريةِ التعبير والنفوذِ السياسيِّ للصهاينة في المجتمعِ الأمريكي.

بهذا الشكل، يظهر بوضوح كيف بدأ فريدمان بالنقدِ والتحليل، وكيف جاء أبا إيبان ليحوّل النقاشَ إلى إطارٍ دفاعيٍّ رسمي، واستمرَّ هذا الخطابُ في الوقتِ الراهن عبر مواقفِ نتنياهو، سموتريتش، بن غفير، عميحاي إلياهو، وكثيرين آخرين، في مسعى لاستعادةِ التعاطفِ الدولي مع الصهيونية عبر الترغيبِ أحيانًا والترهيبِ دائمًا، حيث تسعى الحركةُ الصهيونية إلى كسرِ العزلةِ الدولية التي أفرزتها همجيةُ الجيشِ الإسرائيلي، الذي ارتكبَ جرائمَ واسعةً بحجةِ الدفاعِ عن النفس، منها قتلُ أكثرَ من مئةِ ألفٍ وتدميرُ معظمِ قطاعِ غزة وتجويعُ سكانه. إنَّ تصريحاتِ نتنياهو بأنَّ المكانَ الوحيدَ الآمنَ لليهود هو إسرائيل يُعتبر اتهامًا علنيًا لكلِّ الدول بأنها معاديةٌ للسامية، في مسعى إلى إعادةِ ترسيخِ أنَّ معاداةَ الصهيونيةِ والاحتلال هي معاداةٌ للسامية، خاصةً بعد أن انكشفَ للعالمين الرسمي والشعبي الوجهُ البشعُ للاحتلال.