"دولة" فلسطين قبل "أوسلو"
***
كانت تجربة الاتحادات والنقابات بعد العام 1967 تجربة مهمة، لكنها لم تكن وحيدة، بل جاءت في سياق حالة نهوض خلّاق للمؤسسات الوطنية الفلسطينية، التي تحدّت جبروت الاحتلال، وجسّدت حضورها على الأرض بجذور عميقة عصيّة على الاقتلاع، وفي كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بحيث لم تكن حالة رمزية لسدّ فراغ غياب الدولة، بل كانت من حيث البنية الإدارية والمهنية والوظيفية، مؤسسات دولة تحت الاحتلال. وقد نجحت الانتفاضة الأولى بتحطيم وتفكيك المؤسسات التابعة لدولة الاحتلال التابعة لمّا سمّي بالإدارة المدنيّة..في الصحة والتعليم والزراعة والصناعة والخدمات، وحتى الشرطة، وما يسمّى الأمن العام، وأنشأت بُنيتها الوطنية تحت إطار القيادة الوطنية الموحّدة، وما انضوى تحتها من مؤسسات نقابية ومهنية وتعاونيات وجمعيات مؤسسات سياسية واقتصادية وثقافية وخدماتية. وكانت منظمة التحرير الفلسطينية دولة على بساط الريح، تاقت دوماً لأرضٍ وطنية تحطّ عليها، بينما كان التجسيد الحقيقي للدولة هو المنظومة الوطنية الخلّاقة المستندة على إرادة
شعبية، أنشأتها الحركة الوطنية الفلسطينية على الأرض، خاصة مع انفجار الانتفاصة الفلسطينية العظيمة نهاية 1987..وللأسف لم تمتلك الطبقة السياسية، المُتعبة من الترحال فوق بساط الريح، الوعيَ الكافي لتدرك أن اتفاق أوسلو كان أقلّ كثيراً مما أنجزه المواطنون الفلسطينون على أرضهم من مؤسسات دولة تحت الاحتلال..لأن تلك المؤسسات استندت إلى إرادة وطنية شعبية وقرار وطني بشكل تام، من حيث بنيتها ودورها وأهدافها، في السياق الوطني العام. بينما المؤسسات التي أنشئتْ وِفق اتفاق أوسلو استندت إلى مبدأ نقل الصلاحيات من دولة الاحتلال إلى السلطة الوطنية! ما يعني من حيث الجوهر أن "مؤسسات السلطة" لم تستند إلى الإرادة الوطنية الصرفة في تشكيلها ووظيفتها ودورها العام..ولم تَعِ النخبةُ السياسية أن اتفاق أوسلو كان حالة نكوص سياسي مغلّفاً بوَهْم الإنجاز السياسي، وأنتج، للأسف، طبقةً سياسية ليست محكومة للاتفاق فقط، بل لمصالحها المستندة على ذلك الاتفاق.
والجدير بالملاحظة أن الغلاف الذي شكّل إطاراً مُسانداً لتوقيع اتفاق أوسلو، من قِبل كوادر الحركة الوطنية، على الأرض، في الضفة والقطاع، ونخبة من الفدائيين في الأجهزة الأمنية..سرعان ما اكتشفوا زيف وحقيقة وجوهر النكوص والعَوار السياسي في الاتفاق، فذهبوا إلى الانتفاضة الثانية، ونأوا بأنفسهم، وحاولوا أن يأخذوا الجميع خارج حالة الوَهْم، نحو الاشتباك فيما عُرف بانتفاضة الأقصى العام 2000.
دولة قبل السلطة!
نعم. كان لنا "دولة" فعليّة وحقيقية وقائمة، دون أن نسمّيها، في الضفة الغربية وقطاع غزة، وعاصمتها القدس، قبل اتفاقيات أوسلو.
نعم. وكانت أقوى وأنصع وأنقى وأكثر حضوراً وسيطرة من السلطة الوطنية الفلسطينية، التي أقيمت عملياً بعد توقيع أوسلو في العام 1994. بمعنى؛ أن "سُلطة أوسلو" لم تأت لتقوم على أرض صفر، بل جاءت، وكان على الأرض الفلسطينية مؤسسات دولة حقيقية، أي كانت النقابات (24 نقابة مقرها في القدس) تلعب دور الوزارات كاملةً. ولكن للأسف! فقد خرجت كلُّ النقابات من القدس بعد أوسلو. وكانت مؤسسات الإغاثة الزراعية والطبّية وغيرها تمارس دورها الشامل والمهني على أرض الواقع وتحيط به، وكانت الجامعات والمهرجانات والفعاليات والصحافة الوطنية الحُرّة، رغم الملاحقة والرقابة، مع الحركة الأسيرة والحركة الطلابية، ومع باقي مكوّنات الفعل الفلسطيني تتضافر وتعمل وتنتج، ما يجعلنا نؤكد على أن "دولتنا" قبل أوسلو، واصلت حَمْل ميراث وإنجازات الشعب الفلسطيني، ونهضت لتستكمل دورها في مواجهة استراتيجيات الإلغاء والشطب والتذويب، الذي استهدف الهوية والشخصية والحقوق الفلسطينية. بلغة أخرى؛ كان من المستحيل أن تتفجّر الانتفاضة العام 1987 وحدها، دون أرضٍ راسخة نبتت وتكوّنت في تربتها وفضائها. فكانت الندوات والعروض والأسابيع والمهرجانات الثقافية والسياسية والفنية والوطنية هي التجلّي لتلك الأعمدة التي هي مؤسسات الدولة غير المعلنة. وإلّا كيف حافظ وواصل الشعب الفلسطيني، وهو فوق تراب وطنه، على إنتاجه الثقافي والزراعي والاقتصادي والاجتماعي
والوطني..وأبقى شعلة الوعي وضّاءة في دنيا التربية والتعليم، في مناخ ومحيط معافى صحيّاً وأخلاقياً، كان من نتائجه الانتفاضة والفعاليات التي حالت دون دون أن تهضمنا دولة الاحتلال وتسيطر علينا وعلى مقدّراتنا؟ كلّ ذلك مع التزامٍ وطنيٍّ حديدي، لأن قادة المؤسسات الإعلامية والثقافية والزراعية والصحية والتربوية والاقتصادية، الأهلية والنقابية والجمعيات الخيرية، كانوا يتطهّرون، وكانت الشفافية والمساءلة والحريّة الحقيقية هي بطانة وقوانين تلك المؤسسات..قبل أن تبدأ "العملية السياسية" من مدريد فأوسلو..وتتعرّض الحالة برمّتها إلى إفسادٍ، وشراء ذممٍ، وانحدارٍ نحو بيروقراطية هائجة مُفتعلة.
لقد كانت الصدمة التي أحدثها أوسلو ثقيلة..وعلى الرغم من كل هذا، رأينا أنه ومن الأفضل لنا أن نكون "مُخطئين" مع منظمة التحرير بدلاً من أن نكون "على صواب" مع دولة الإحتلال.
إن منظمة التحرير امتلكت كلَّ العيوب لتنجح، كما يقولون، لكنها لم تأخذنا إلى أبواب الجنّة.
بعد أوسلو غابت النُّخب، وأصاب الوهنُ بناءاتنا، وأصبحت الحالة الفلسطينية بين يدي إسرائيل وتحت "المجهر" الاحتلالي، يتحكّم بنا.. وبتنا تحت ناظره وضرباته، فَفَقَدنا المُتَحَكِّم! ما أدّى إلى تمزيق الذات الفلسطينية، وانفراط القوى القادرة على خلق شبكة تحمي المجتمع وأحلامه، بعد أن أوغل الاحتلال فينا، وراح "يركّبنا" ويذهب بنا إلى حيث يريد، بمقاساته، وتبعاً لمصالحه، وواصل إفراغنا من محتوانا، والقضاء علينا عبر إبادة ماحقة في غزة، وإبادة للإرادة والأرض في الضفة..ما أوصلنا
إلى هذا الواقع المفجع والصادم. والغريب أن حالة من الغياب ما فتئت تدوّم فينا ومِن حولنا!