في ذكرى انطلاقة فتح: الذاكرة لا تكفي .. والمستقبل لا ينتظر
الكاتب: د. ياسر أبوبكر
في الأول من كانون الثاني/يناير 1965 لم تُعلن حركة فتح انطلاقة تنظيمية عادية، بل دشّنت تحوّلًا عميقًا في الوعي السياسي الفلسطيني. كانت تلك اللحظة إعلانًا عن ولادة الفعل الفلسطيني المستقل، وانتقال الشعب الفلسطيني من موقع الانتظار إلى موقع المبادرة، ومن حالة التبعية إلى امتلاك القرار الوطني. لذلك، فإن ذكرى الانطلاقة لا تُختزل في استعادة رمزية الماضي، ولا تُختصر في خطابات احتفالية، بل تُفهم بوصفها محطة للمراجعة الجريئة، وميزانًا نقيس به المسافة بين ما كنّا عليه، وما آل إليه حال الحركة اليوم.
مرّت فتح بمحطات صعبة ومفصلية، لم تكن يومًا طريقًا مستقيمًا ولا قصة نجاحٍ بلا كلفة. من ما بعد هزيمة 1967، إلى الكرامة، إلى الصدامات الإقليمية، إلى بيروت والخروج منها، ثم الانتفاضات، فالسلطة، فالانقسام ،،، في كل مرحلة كانت الحركة تختبر قدرتها على التكيّف دون أن تفقد جوهرها كحركة تحرر وطني. نجحت أحيانًا، وتعثّرت كثيرًا، لكن الخطر الحقيقي لم يكن في الهزائم أو التراجعات، بل في لحظة اعتقاد ضمني بأن الزمن كفيل بحل الأزمات دون تغيير الأدوات والعقول.
التحوّل الأخطر في مسار فتح جاء مع انتقالها إلى قيادة سلطة وطنية تحت الاحتلال. لم يكن ذلك خطأً بحد ذاته، بل ضرورة فرضتها لحظة سياسية معينة، لكن الإشكالية بدأت حين تآكلت المسافة بين الحركة والسلطة، واختلط التنظيمي بالوظيفي، وتراجعت التعبئة لمصلحة الإدارة اليومية. شيئًا فشيئًا، أُفرغت الحركة من كثير من كوادرها الميدانيين، وتقدّم منطق المواقع والامتيازات على منطق الرسالة، وضعف التواصل مع القواعد، رغم توفر الإمكانيات والشرعيات.
اليوم، وبعد ستة عقود على الانطلاقة، لا يمكن إنكار حقيقة باتت واضحة في الشارع الفلسطيني: مكانة فتح تراجعت، خصوصًا لدى الجيل الناشئ، بما في ذلك داخل عائلات فتحاوية تاريخيًا. هذا التراجع لا يعود إلى فقدان الوطنية، ولا إلى تبدّل القيم، بل إلى أزمة نموذج. الشباب لا يبحثون عن شعارات، بل عن معنى، ولا عن تاريخ فقط، بل عن مستقبل يُقنعهم بأن هذه الحركة ما زالت قادرة على القيادة، لا على إدارة التوازنات الداخلية فحسب.
في هذا السياق، خلال الأشهر الأخيرة أضافني أخوة من الكادر الفتحاوي المميز لمجموعاتهم على وسائل التواصل الإجتماعي، وبرزت نقاشات داخلية صريحة بين كوادر فتحاوية تمتلك تجربة تنظيمية ونضالية عميقة ، هذه النقاشات، التي يجب التعامل معها بوصفها فعل انتماء لا خروج، تلتقي عند تشخيص أساسي:
المشكلة ليست في عقد المؤتمر الثامن بحد ذاته، بل في آليات الوصول إليه. فمؤتمر تُحدَّد مخرجاته مسبقًا، أو يُبنى على معايير عضوية وتمثيل مختلّة، لن يكون مدخلًا للتجديد، بل وسيلة لإعادة إنتاج الأزمة.
القول إن "الأهم من المؤتمر هو معايير الوصول إليه"ليس ترفًا تنظيميًا، بل قاعدة سياسية. المدخلات تصنع المخرجات، وأي قيادة تُنتخب دون قواعد واضحة للمحاسبة والتمثيل ستبقى أسيرة موازين القوى ذاتها. لذلك، فإن استعادة الثقة تبدأ من تعريف صارم للعضوية، ومن شفافية في اختيار ممثلي المؤتمر، ومن احترام النظام الداخلي بوصفه مرجعية لا نصًا انتقائيًا.
وتتقاطع هذه المراجعة مع سؤال العلاقة بين فتح والسلطة ؟ . المطلوب هنا ليس شيطنة السلطة ولا التقليل من دور المؤسسات الأمنية في حماية المجتمع، بل إعادة ضبط العلاقة بما يحفظ استقلال القرار التنظيمي للحركة. حركة تحرر وطني لا يمكنها أن تستعيد عافيتها إذا ذابت بالكامل في السلطة، أو إذا أصبحت ساحتها التنظيمية امتدادًا لصراعات النفوذ الوظيفي. الفصل المقصود هو فصل وظيفي وتنظيمي، لا صدامي، يعيد لفتح دورها القيادي في المجتمع، لا إدارتها من خلف المكاتب.
كما تبرز في النقاشات الداخلية مسألة المحاسبة بوصفها أصل الداء وأصل العلاج. لا تنظيم بلا قانون، ولا قانون بلا تنفيذ. حين تغيب المحاسبة، وتُدار الأخطاء بالتجاهل أو بالانتقائية، تتحول الحركة إلى فضاء مفتوح بلا ضوابط، وتضيع الحدود بين الالتزام والانتهازية. إعادة الاعتبار للمحكمة الحركية، وتطبيق قراراتها بعدالة، ليست إجراءات تقنية، بل رسالة أخلاقية بأن الحركة ما زالت تحترم نفسها.
ولا يمكن الحديث عن الاستنهاض دون التوقف عند الشباب والجامعات والمرأة. فتح التي وُلدت في ساحات الطلبة والنقابات لا يجوز أن تنظر إلى هذه الساحات كعبء أمني أو هامش سياسي. الجامعات ليست خطرًا، بل خزان قيادة مستقبلية، والمرأة ليست كوتا شكلية، بل شريكة حقيقية في إعادة بناء الثقة المجتمعية. أي استنهاض لا يضع هذه الفئات في صلب المشروع، لا في هامشه، سيبقى ناقصًا مهما بدا منظمًا.
وتتضاعف خطورة المرحلة مع ملفات وطنية حساسة تُدار بإهمال أو صمت، وعلى رأسها ملف رواتب الشهداء والأسرى والجرحى بما يحمله من معنى الكرامة والشرعية، والملفات السياسية المتصلة بمستقبل غزة والتمثيل الوطني.
في لحظات الخطر الوجودي، لا يكون الصمت حكمة، بل مخاطرة، لأن ترك هذه الملفات بلا مواجهة سياسية واضحة يفتح الباب لتآكل ما تبقى من الثوابت.
في ذكرى الانطلاقة، المطلوب من فتح ليس خطابًا احتفاليًا، ولا بيانًا تعبويًا، بل قرارًا شجاعًا بالتصحيح. المطلوب حركة واضحة الهوية، منضبطة العضوية، ديمقراطية الاختيار، صارمة في المحاسبة، رحيمة بقواعدها، وقادرة على مخاطبة الناس بلغة العصر دون التفريط بالثوابت. فتح لا تُختبر بتاريخها فقط، بل بقدرتها على أن تكون أداة المستقبل، لا حارس الماضي.
الذاكرة مهمة، لكنها لا تكفي. والانطلاقة قيمة، لكنها ليست ضمانة. المستقبل لا ينتظر، ومن لا يُجدّد نفسه طوعًا، يُستبدل قسرًا. هذه ليست نبوءة، بل درس التاريخ. وفي لحظة فلسطينية شديدة القسوة، يبقى الأمل أن تتحول ذكرى الانطلاقة إلى نقطة بداية جديدة، لا إلى مناسبة أخرى نكتشف فيها أننا نعرف المشكلة ،،، و نتردد في حلها.
